كيف تتحولين لقطة شيرازي في 8 أشهر

606

ندى

 

تنام نحو 16 ساعة في اليوم، ثم تستيقظ لتأكل وتدخل الحمام، مسقطة في طريقها مئات الشعيرات على سجاد المنزل، ثم تتعب فتجلس أمام النافذة أو التلفاز، وتعيد الدائرة مرة أخرى.

ليست القطة الشيرازي وحدها، بل هذا باختصار ما استطاعت 8 أشهر من الجلوس في المنزل تحويلي إليه.

 

تتوقعين حديثًا نسويًا عن استقلاليتك المادية ومدى وقوعك تحت سيطرة المُنفق وكلامًا توعويًا في هذا السياق؟ مش أنا يا أمي.. أنا أتفه من كده بكتير.

 

كنت قد عملت لعامين صحفية، ثم بدأت أفقد حبي واقتناعي بما أفعله، بالتدريج صرت أعمل بفرق توقيت يجعلني أركض طوال الوقت ولا أنجز شيئًا، فقررت أنه حان وقت الجلوس لفترة في المنزل.

 

(1)

في الثانوية كانت تدرسني الفلسفة وعلم النفس مدرسة على المعاش تدعى مها عبد العزيز، حضرت في ذهني بقوة وتخيلتها توبخني بمجرد أن أرسلت إيميل الاستقالة، كانت سيدة راقية بتنورة قصيرة وبلوزة كلاسيكية، قد تم تضييق فتحة صدرها بخياطة يدوية، كانت تتعمد وضع بعض الأسئلة الاجتماعية غير المتعلقة بموضوع الدرس، في منتصف كل حصة، تثير بها جدلاً بين الطالبات وتوافق وتعترض على نفس الفكرة من باب التضليل، ثم تعطينا نصيحتها. نسيت أغلب ما تعلمته في الثانوية، وظلت نصائح هذه السيدة ترن في أذني، كانت ميس مها ترى أن الخريجة التي لا تعمل، تحتفظ بشهادتها لعام واحد فقط، ثم تخسر شهادة في كل عام إضافي تضيعه في المنزل، حتى تعود دون أن تشعر للتعليم الابتدائي.

 

الأشهر الأولى في المنزل

هناك بعض الحسنات المغرية لقلة الخروج، كتفتُح لون بشرة وجهك ويديك واختفاء آثار الأحذية من قدمك، تعودين لونًا واحدًا بالتدريج -كله جر رجل- ثم تبدأ الأعراض.

– كثرة السهر تجلب كثرة الأكل (دي معروفة)، لكن ما اكتشفته وأثبتته الدراسات أن السهر يسبب الاكتئاب، وتقليب الذكريات، والأفورة، 80% من قراراتك الغبية يا عزيزتي ستأخدينها بعد 2 الصبح.

– على عكس أحلامك البريئة، التفرغ لن يفسح وقتًا للقراءة والثقافة والرياضة والبتاع، الفراغ يفقدك الشعور بقيمة الوقت ويعلمك التسويف “لبعدين” لأنك تملكين الكثير من البعدين ده.

 

(2)

كان لميس مها صوت مميز بنبرة خشنة تعلق بالذاكرة، مع لدغة محببة في حرف الراء، كانت من أواخر من تخرج في قسم الفلسفة وعلم النفس من كلية الآداب، قبل أن تُفصل كل مادة في قسم مستقل، عندما كنت أنا في بداية عامي الثاني في مدرستي الثانوية كانت تنهي هي خدمتها بوصولها لسن المعاش، إلا أنها استمرت في العمل بالدروس الخصوصية من المنزل، كانت تودع مجموعة طالبات وتستقبل أخرى بينما تطبخ الطعام، وأثناء الامتحان اليومي تتابع البورصة لتساعد في عمل ابنتها المتزوجة التي تقيم في دولة عربية.

 

كانت تعامل الأمومة كوظيفة، أنجبت 3 أطفال وجلست عامين في المنزل لتربية كل طفل، تمسك بكتب التربية وتتابع بالورقة والقلم الغذاء الصحي وجلسات الشمس الضرورية للعظام وتسجل تطور النمو، تبني الشخصية وتعلم الطفل كيف يُعبِّر عن نفسه، ثم تعود للعمل.

 

المرحلة الثانية للجلوس

– ستعرفين قيمة لم الأجرة وحساب الباقي من ثمن كارت الشحن، عندما تتوقف دماغك فجأة أمام الكاشير من قلة الاستخدام وتضطرين للحساب بطريقة الرقم الكبير في دماغك والصغير على أصابعك لتحاسبي الصيدلية.

– ستتغير طريقة حسابك للأمور، بعد أن كنت توافقين على خروجة بحساب مقدار المتعة المتوقعة في مقابل المال المتبقي في جيبك، ستحسبين الأمر بمسافة الطريق، ومقدار “الفرهدة” التي صرت تشعرين بها من أقل حركة.

– تغيرات لن تشعري بها إلا إذا سألتِ نفسك متى كانت آخر مرة اشتريتِ شيئًا ليس بطعام ولا كروت شحن، وتكتشفين أن آخر شخص جديد تعرفتِ عليه كان المكوجي.

 

(3)

الضعف والاعتماد الذي يسببه أخذك المال من طرف آخر، كان أقل ما يضايق ميس مها ويرفع صوتها، عند الحديث عن العمل، كانت دائمًا ترى أن المرء في حاجة لحد أدنى من الأوغاد والمقالب في حياته، لكي تتطور شخصيته، وينضج ويتعلم ويصبح مفيدًا لنفسه وللمحيطين به، وإن بقيتِ في المنزل تتعاملين مع الجيران والأقارب فقط، فأين ستقابلين عدد الأوغاد المطلوب ليكتمل بنيانك النفسي، وكيف ستواكبين تطور شخصيات شركاء حياتك الذين يتعاملون مع الأوغاد يوميًا؟!

 

مرحلة الوحش

– قلة الحديث مع أشخاص جدد تحولك بشكل مفاجئ لشخص رغاي، رغاي ولا يجد أي جديد يضيفه، ولا يعرف كيف يسيطر على رغبته في الحديث.. أيوه زي طنط فلانة اللي كنتي بتتريقي عليها.

 

حافظت على مكالمات متقطعة معها منذ أنهيت الثانوية في 2009، إلى أن خفت يومًا أن أتصل بها فأسمع رأيًا سياسيًا يدمر لي تمثالها الكبير في ذهني في 2014، وقتها كانت خسارة الناس بسبب السياسة أمرًا شائعًا، آثرت الحفاظ عليها صورة جميلة في ذهني.. ليتني فقط أستطيع أن أتصل بها هذه الأيام وأسألها: أيهما أكثر إتلافًا للدماغ يا ميس، القعدة في البيت ولا الكتابة عن كيم كارديشان؟

 

المقالة السابقةلأول مرة.. ما بين الخذلان والمكاسب
المقالة القادمةأتى معرض الكتاب.. فلا تشتروا كتبًا
ندى محسن
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا