(1)
كنت أنتظر صديقتي في المكان الذي ضربت لي فيه موعدًا، على ناصية الشارع الرئيسي لبيتها، حيث تقع مدرسة صغيرة للبنين فقط، وقد تصادف ميعادي معها مع ميعاد خروج الأطفال من المدرسة، لتسمع صوت الـ”هييييييييييييييييه” يخترق آذان الجميع، ويكاد يرُج الأرض والسماء من شِدته.
وقف منهم جمع متكئ على السيارة التي أقف أمامها، أكبر من فيهم لا يكاد يُكمِل السادسة عشرة، كان صوتهم عاليًا لدرجة أن بلغ مسامعي حديثهم، ويا ليتني لم أسمعه!
كانوا يتضاحكون على واحدٍ منهم، يمطرونه بنقد لاذع، ويعيبون في رجولته، ويتوعدونه أن تكون فضيحته “بجلاجل” بين باقي أصدقائهم حين يقصون عليهم الأمر، بينما ينظر إليهم شذرًا قائلاً “لم أستطع أن أفعلها”. قادنى الفضول لئلا أتصل بصديقتي وأتعجلها بالقدوم في الموعد الذي تأخرت عنه بالفعل ربع ساعة كاملة، لأعرف في نهاية حديثهم -وهم على وشك المغادرة- أن كل هذه المعايرة بسبب رفضه التحرش بفتاة لفظيًا البارحة، بعد خروجهم من درس الفيزياء.
شعرت بالغضب والحسرة يملآن قلبي، ونظرت إلى السماء في ترجٍّ، وظللت أردد في أسى “يا رب ميتحولش لمتحرش”.
(2)
أقف في طابور طويل أمام شباك مدام علوية بتموين طوسون، لم أعرفها قبل اليوم، لكني عرفت اسمها من كثرة النداء عليها ومن طول وقوفي في هذا الطابور الذي يمتد إلى اللا نهائية وما بعدها، تقف أمامي امرأة نحيلة معها طفلان، تحمل الفتاة بكلتا يديها بينما يقف الولد بجانبها، لا أعلم كم مر من الوقت على وقوفنا، شعرت بالولد يتململ في وقفته، وفجأة بدأ يبكي طالبًا من أمه مرارًا وتكرارًا أن تحمله، فصرخت فيه صرخة مدوية خلعت قلب كل الموجودين، حتى مدام علوية نفسها، وقالت “أنا مش قُلت مفيش راجل يعيط؟ اوعى تعيط يا حيوان”، ثم انهالت عليه بصفعة كانت كفيلة بأن تخرسه.
جذبته إليّ من يده برفق وأعطيته بعض البونبوني من حقيبتي، فابتسم بخوف ثم أخذها وأكلها في نهم، ظل واقفًا حتى أنهكه التعب وكتمان الدموع، فخانته حنجرته وأصدرت صريرًا صغيرًا أشبه بمواء القطط الصغيرة، فرمته أمه بنظرة نارية أسكتته من جديد.
(3)
جلس على مقرُبةٍ مني، يبدو عليه الضيق والحزن الشديد، فسألته عما به، ليخبرني أن زوجته طلبت الطلاق، صُعِقت! لقد كُنا نُسميهما عصفوري الحب الكبير، وحين غلبت الدهشة على ملامحي، قال بابتسامة مرتعشة وساخرة “لا تستغربي.. كل شيء جائز في هذه الحياة”.
حكى لى أنه كان يعشق زوجته، قصة حب عمره التي لم يرَ فتاةً غيرها مذ أن وقعت عليها عيناه، لكن الجميع كانوا يرونه “مش راجل” في تدليله لها، وإنها تضعه كخاتم في إصبعها، وإن محبته الزائدة هذه ستفسدها عاجلاً أو آجلاً، وبأنه يجب أن يُريها العين الحمراء حتى تعمل له ألف حساب. وقد أخذ بالنصيحة فعلاً، فكف عن الأخذ برأيها في الأمور، وبدأ بتجاهلها شيئًا فشيئًا، وهي تسعى لإرضائه ولمعرفة ما سبب تغييره من ناحيتها، وحين ظل الوضع على ما هو عليه، ساورتها الشكوك بوجود أخرى بينهما، وأحالت حياتهما إلى جحيم مطبق، شك دائم في كل وأي شيء، وصل بها إلى حد التفتيش في هاتفه الذكي، لينتهي الأمر بمشادة بينهما من اللا شيء، وليعميه الغضب فيضربها كفًا يكسر به آخر الروابط بينهما.
نظر إليّ ليرى ملامح الغضب ترتسم على وجهي، فقال “قبل أن تقولي أي شيء، أعرف أنني مُخطئ، أعرف وأحاول أن أصحح خطئي، لكن أتعرفين ما أكثر ما يؤلمني الآن؟ أنني حين حكيت لأحد أصدقائي منذ يومين أخبرني أنني الآن عُدت الرجل الذي يعرفه، وتركت ذاك الخرِع الذي زرعته زوجتي بي حين أحببتها”.
(4)
يُخطئ من يظن أن المرأة وحدها ضحية في المجتمع الذي يتسم بسيادة المبادئ الذكورية فيه، فالذكورية تحمل في طياتها تنميطات شديدة البؤس للرجل، كما تحمل للمرأة تمامًا، تنميطات تُقولِب الرجل في صورة وحش كاسر، يجب أن يأتي كل فعل عنيف أو يحتوي على إيذاء لكائن أضعف منه، حتى يُثبت بذلك رجولته، لا يجب أن يُعبِّر عن مشاعره بالحزن أو الحب، لأن هذا ضعف، والضعف ليس من شيم الرجال وإنما للمرأة وحدها، جُل ما هو مُتاح له هو أن يعبر عن الغضب، عن الحقد، عن الكراهية، وعن الأذى.
يتربَّى الرجل في مجتمعنا البائس على أن للرجولة نمطًا معينًا لا يجب أن يخرج عن إطاره، وإلا سقط من نظر المجتمع وفقد شهادة الجميع برجولته، لا يصح أن يكون عاشقًا، وإذا عشِق لا يعبر عن مشاعره، بل يجب أن “يشكم” امرأته، وأن يريها الويل وسواد الليل، لا يجب أن يكون رومانسيًا أو حالمًا، لا يجب أن يبكي مصابه وإلا صار غير أهل للشدائد، يجب أن يكبت كل شيء بداخله، فلكي تكون رجلاً صحيحًا هنا، يجب أن تعيش جامدًا خاليًا من أي إحساس، مجرد مسخ! نعم، يمسخون رجالنا إلى آلات حية لا تشعُر، ينمُّون فيهم السيكوباتية وحب الأذى، يُرسِخون في نفوسهم الإيمان بأنه دون عنف يصبح كائنًا ناقصًا، والكائن الناقص لا يحترمه أحد.
أتمنى أن يأتي اليوم الذي ينظر فيه الرجل إلى مرآته ويرى نفسه بشرًا، البشر قادر على الحب والبكاء والشعور بالضعف والوحدة، أتمنى أن يُدرِك أن هذا حقه، وألا يسمح لأحد بأن يسلبه منه، أتمنى أن يمنح نفسه الفرصة ليكون رقيقًا، وليشعر بالضعف والحب والحزن، ولا يبالي باتهامات الآخرين في رجولته لأنه ليس “حِمِش” بما يكفي في نظرهم، فهذا لا يضير برجولته على الإطلاق، وكونه حنونًا رقيقًا عذبًا لا يتنافى البتة مع كونه شهمًا جريئًا قويًا مقدامًا، فهذا هو المعنى الحقيقي للرجولة، والرجولة الحقيقية ليست مسبة.
I happen to be writing to make you know of the remarkable experience my child encountered studying your site. She noticed many issues, which included what it’s like to have a marvelous teaching mindset to get other individuals just fully grasp specified extremely tough issues. You actually did more than her expectations. Thanks for coming up with the powerful, trustworthy, educational and in addition unique guidance on the topic to Julie.