في رثاء فتافيت والحياة الحلوة

1117

 

دينا

8/2/2017

لطالما كانت الحياة مملة بائسة فاقدة للسحر، ولطالما بحثنا عن المهرب الذي قد يؤثر باختلافه على أرواحنا البالية فتتوهج مجددًا.. وفي صبيحة يوم رائع منذ عدة سنوات طلت علينا قناة “فتافيت” المتخصصة في برامج الطبخ.

 

“فتافيت.. الحياة حلوة”.

هكذا كانت تعدنا “فتافيت” دومًا، حتى باتت المهرب الآمن من قسوة الواقع، تمرر لنا حلاوة الدنيا من صنعة الطبخ والجمال الخالص الكامن فى برامج، عبرت بنا إلى سحر التفاصيل، وحيوات أخرى لم نختبرها ابدًا، وأشكال من الأرض التي لم نزرها إلا في الأحلام البعيدة.

 

فتافيت.. الحياة حلوة“.

علمتنا “فتافيت” أن الأحلام قد تنسج على أُطر الشاشات المسطحة، الشطحات الخيالية باتت أكثر تصديقًا ونحن نرى العالم الأخر بين يدىّ “جيمى أولفير” و”ناجيلا لوسون”.. عصرة الليمون وحمرة الطماطم وطزاجة الأعشاب الخضراء، القدرة على لمس التفاصيل كانت قابلة للتحقق أمام “فتافيت”.

السفر إلى “بريطانيا” لم يعد بالصعوبة التى نعرفها، فقط المكوث أمامها وكأننا بضربة عصا بتنا فى السهول الخضراء والبيوت الريفية القصيرة.. نرى زرعة البطاطس حديثة الميلاد تخرج من الأرض الباردة، دفاتر “جيمي” ورسوماته لخير الزرعات، ابتسامات “ناجيلا” ولكنتها وروائح الشيّ القادمة من وراء أسوار حديقتها الخلفية.

“الأنسة دال” تخبز الكيك فى مطبخها الإنجليزي فتطلنا الروائح الدافئة وحميمية الصنعة والاسترخاء.

 

باتت “إيطاليا” أقرب لنا مع “جيادا دي لورنتس”، قِدم الكنائس على التلال القصيرة وأمامها حقول واسعة من كرمات العنب الأحمر تنتظر حصاد جديد.

“مارثا ستيوارت” تحترف الجمال والرقي فنكمث محدقين في مهارة يديها في العجن وخفقة البيض فوق مخبوزات نشتهي تذوقها.

 

الأمر بات أكبر من مجرد وصفات للتطبيق أو تعلم المزيد من المهارات فى فن الطبخ، الأمر بات كالمتنفس المريح بعد مشقة يوم مشحون بالأعباء والركض خلف المزيد من الأعمال، التي يبدو أنها خُلقت لكيلا تنتهي أبدًا.. نلهث قليلاً فنستريح فى رشة التوابل الهندية العطرة، يعشش الحزن فوق رؤوسنا فنطلب المزيد من المارجريتا المحضرة في الولايات المتحدة.. نصرخ في الأولاد فنهدأ بين حقول الزيتون في اليونان.

 

“فتافيت” تهدينا الحُلم والتفاصيل وتفتح لنا طاقات مضيئة في قلوبنا المنهكة.. الحياة معها حلوة حقًا ونستحق أن نعيشها بنوافذ تطل على الشمس وآنية جميلة للاقتناء، وريحان ونعناع على هامش الحياة نزرعهما من أجل بعض السلام.

 

فتافيت.. الحياة حلوة“.

والحياة الحلوة الآن لنقتنيها علينا دفع المزيد من الأموال.. الحياة الحلوة لم تعد مجانية وعلينا ألا نندهش أبدًا.

كان علينا توديع مكاننا الخاص للسفر إلى الخيال، سيتمتع به القادر على دفع ثمنه فقط.

لن نشاهد الهروب المضحك للنملة الصغيرة من رشاشات الماء، ولن نرى الفواصل الدافئة بإحساس قرب التفاصيل بتصوير أدق، صوت ذوبان الزبد.. رشة السكر.. كرملة البصل.. غليان الماء.. تكتكة الكريمة الساخنة.

الأمر أشبه بالخروج القاسى من مناطق الراحة التى اعتدناها فأدمناها. ذات صباح أعلنوا تشفير الحياة الحلوة، وصارت الشاشة سوداء كأرض هجرتها الأحلام إلى الأبد.

 

بحثنا كالمدمنين عن البدائل، أراضٍ أخرى نرتحل إليها قد نجد فيها السكينة المفقودة بسبب المزيد من الضغوطات والمزيد من الإرهاق. ولكن البدائل كانت من القبح الذي لا يسعنا وصفه أو صياغته أو الحكي عنه أو تخيله أو معايشته.

البدائل لم تمنحنا البراح والإلهام والأحلام.. لم تمنحنا بهاء التفاصيل ونور الجمال.

البدائل كانت تشبهنا حد الإحباط، حد اليأس وحد الملل.

 

ومع البدائل افتقدنا “نرمين هنو” وهي تذيب الشوكولاتة على نار هادئة كهدوئها وهشاشتها.. طلة “دعد” وموسيقى تتر برنامجها من ألحان عود “نصير شمة”، ورق العنب الشامي الملفوف بإتقان من يد “محمد أورفلي”.

غناء الشيف “طارق” وهو يدندن لقطعة الاستيك برنة صوته المتحشرج “رأيت خياله في المنام محلاه يا وعدي” ويعقبها بـ”يا سييييدي” ممطوطة منغمة محببة ساكنة للقلب مع شواء اللحم بلهب غرامه للطبخ.

يبشر جبن البارميجان فوق الاسباجيتي الغارقة في الصلصة الحمراء، فتلتهب حواسنا الخمس ونركض إلى الخزائن نفتش عن وجبة مكرونة ساخنة تسد ثقوب الروح الآملة في دفء صغير.

 

اشتقنا للجدات “الخِتيارات” في تلال لبنان و”داليا مصطفى” تنقب عن الحكايا القديمة بداخل كبر أعمارهم.. تستخرج منهن سر الوصفة المخفي في “سبرتاية” القهوة وقت العصاري.

حتى “العربي المكسر” كان له وقع محبب من “أندرو ميتشل”، ترافقه “دارين الخطيب” بصحبة خفيفة الظل.. اشتاقنا لـ”حبيت” من صوتها الذي ميّز كل فواصل “فتافيت” وروى أصل الوصفات وذهب بنا إلى الهند وتايلاند والمغرب، وختم وجود “فتافيت” في حياتنا اليومية.

 

الحياة.. لم تعد حلوة“.

الحياة الحلوة قد لا نستطيع شراءها الآن، والجمال لم يعد مجانيًا، والأحلام صارت كالمريولات المتسخة ببقع لا تنمحي.. ذهبت عنا “فتافيت” وتركتنا لـ”ورقة وقلم واكتبي ورايا يا ست الكل”.

والأهم أن علينا ألا نندهش من ذلك أبدًا!

 

 

المقالة السابقةقطع البازل الناقصة
المقالة القادمةالدجاج المشوي السهل بثلاث طرق مختلفة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا