الكاتبات والوحدة 4: فاليري سولاناس: عندما تخذلنا الكتابة

1930

لم تفكر فاليري سولاناس يومًا بقتل نفسها، بل كانت تفكر في القضاء على الرجال، لأنهم بنظرها مصدر الشر، وسبب الظلم والقهر الذي تتعرض له النساء، وهي بالطبع على رأسهن.

كانت فاليري تصف نفسها ككاتبة، لكن لا أحد أراد الاعتراف بذلك. عندما أقرأ كل ما كُتِب عنها، أجد كلامًا حادًا أو محايدًا: نسوية مجنونة، مريضة بالفصام وجنون العظمة، قاتلة، أطلقت النار على المخرج والرسام آندي وارهول، خارج الاستديو الخاص به والذي كان يطلق عليه اسم “المصنع”، ثم سلمت نفسها للشرطة. قائلة إنها نادمة على “لا شيء”. لكني أشعر ما بين السطور بأشياء أخرى، أجد قصة مأساوية لامرأة لم تلقَ التقدير الذي تستحقه، امرأة ربما كنت سأكونها في زمن آخر وظروف أخرى، ربما شعرت في الكثير من الأوقات بما شعرت به، من قلة تقدير وإهانة، وعدم الأخذ بجدية.

قصة معتادة عن طفولة قاسية ورغبة في التلاشي

ولدت فاليري في نيو جيرسي عام 1936، وككل القصص المأساوية المعروفة، وجدت نفسها تعيش مع أب سكِّير بعد انفصاله عن أمها، يعتدي عليها جنسيًا ويضربها بعنف، فانتقلت للعيش مع جدها، الذي استكمل مهمة أبيها من ضرب وإهانات، حتى هربت من البيت في سن الخامسة عشر.

الغريب أن لا أحد فكر بشكل عميق فيما حدث لها أثناء الطفولة، معتقدين أن العنف الذي تعرضت له جعلها فقط ثائرة وغاضبة، جعلها مجنونة، تكره الرجال، تعمل في الدعارة، تجهض أطفالها أو تلدهم وتلقيهم لأيّ شخص آخر. لم يلقِ أحد بالاً لما شعرت به الطفلة الصغيرة من قهر وإهانة. كنت أحاول تخيّلها في هذه السن، طفلة في بيت فقير مع وحش يعتدي عليها، ربما شعرت وقتها بحاجتها إلى الاختفاء، التلاشي، لكنها لم تستطع فعل ذلك إلا بعد سنوات، عندما ألقت بنفسها إلى الشارع الذي بدا رحيمًا بها أكثر من البشر.

في بعض الأحيان كنت أشعر أيضًا بالرغبة في التلاشي، أمشي في الشارع فأنظر إلى الأشخاص من حولي، يعيشون وكأن لا شيء يحدث، لا أحد يشعر بأحزاني الداخلية أو ما أفكر فيه فعلاً، هم فقط يرون وجهًا وجسمًا لامرأة تسير في الشارع. في فترة من الفترات تمنيت ارتداء نقاب أسود يعزلني عمن حولي. فكرة الوحدة -كما عرفت- بعد ذلك تكمن كلها في العزلة، أنتِ لستِ وحيدة في البيت ولا الشارع ولا العمل ولا السوبر ماركت، لكنك تلفين نفسك في شرنقة سوداء، معتمة أو شفافة، تهربين بعيدًا، ليس فقط بسبب الاكتئاب، لكنه عدم القدرة على التواصل.

الكتابة هي الطريقة الوحيدة للتواصل

فاليري أيضًا فقدت القدرة على التواصل، لكنها اكتشفت أنها قادرة على التواصل عبر الكلمات. في عام 1958 حصلت على درجة الشرف في علم النفس من جامعة ماريلاند، كانت ذكية جدًا وربما كان هذا سر شقائها، الذكاء الحاد مع الظروف القاسية يمكن أن يؤدي بالفعل إلى الجنون، لهذا لم تتمكن من استكمال العمل أو التعلم، وانتقلت إلى نيويورك عام 1962، لتقضي يومها تتسول 15 سنتًا من المارة مقابل إجراء حديث شخصي معهم، أو تعليمهم ألفاظًا بذيئة، وأحيانًا ممارسة الجنس مقابل المال، لم تمانع حتى في الممارسات الشاذة السادية، كما عُرِفت بأنها مثلية صريحة في وقت كانت المثلية فيه تتعرض للاضطهاد والمحاربة.

كان الوقت السعيد الوحيد لفاليري وسط كل هذا الشقاء والتسكع والنوم في الشارع، هو عندما تضمها حجرة حقيرة لفندق رخيص، مع آلتها الكاتبة. تجلس لتدخن وتكتب فقط، ومن هنا أنهت مسرحيتها الأولى والأخيرة “في مؤخرتك”، وهي مسرحية إباحية عن امرأة تعمل فتاة ليل، تكره الرجال، لينتهي بها الأمر بقتل أحدهم.

أرادت فاليري إنتاج هذه المسرحية، فلجأت لآندي وارهول، الذي كان يحيط نفسه بفناني ومثقفي نيويورك في “المصنع”، والذي كان قد اعتاد على زياراتها وغرابة أطوارها. كان يسجل أحاديثها معه ليستخدم تعبيراتها الفريدة -برأيه- بعد ذلك في كتابة فيلم أو نص. وعدها بقرائتها، لكن جرأتها أصابته بالذهول، فهو نفسه المعروف بإخراج أفلام جريئة ورسم لوحات إباحية، لم يتمكن من مجاراتها، كانت فاليري أقرب للإنسان الأول، لا تنتمي إلى فئة محددة، لا تعترف بالقواعد الاجتماعية، وكان التعامل معها يعني إلقاء نفسه في النار. فقرر إنهاء إلحاحها الذي استمر فترة طويلة لدفعه إلى إنتاج المسرحية، بالتظاهر بأنه أضاع نسختها الوحيدة، لكنه قرر تعويضها بالسماح لها بالتمثيل في فيلم جديد له مقابل 25 دولارًا.

قسوة المجتمعات الإبداعية قد تؤدي للجنون والموت

ربما كان آندي وارهول فنانًا حقيقيُا، تعرض هو نفسه لاضطهاد كبير، كونه من أصول شرق أوروبية فقيرة. فنان مثلي غريب الأطوار، لكنه كان قد استطاع تحقيق قدر من الشهرة والثراء، جعله وقتها غير قادر على تفهم امرأة تعاني من ظروف أسوأ مما كان هو عليه. أخذها باستخفاف، ربما دون قصد، لكن النتيجة هي أنه تكفل بزيادة جنونها وعزلتها.

كانت تتحدث بسرعة وعنف، بشعر قصير صبياني وغطاء رأس رث، ترتدي معطفًا ثقيلاً صيفًا وشتاءً. في الحقيقة كانت فاليري نموذجًا أكليشيهيًا للنسويات المعاديات للرجال. ربما كانت أقرب لصورة كاريكاتورية يسخر منها المثقفون اليوم، امرأة بهيئة رجل، تريد القضاء على جنس الرجال بدعوى أنهم كائنات مشوهة تنقصها ميكروسوم بسبب خطأ بيولوجي، فولدوا ناقصين، لم يتمكنوا من أن يصبحوا نساء مكتملات، فأصبحوا كائنات عنيفة وفظة ومتكبرة، ليسوا مسؤولين فقط عن قهر النساء بل عن كل فعل سيئ في العالم: الحرب، المرض، سطوة المال، الزواج، الكراهية، الطبقية، التحامل، السلطوية، والمحادثات السيئة التي تتمركز فقط حول ذواتهم، غير قادرين على الارتباط بأي شيء خارج أنفسهم، لذلك فإن “محادثات الذكر لا تحوي أيّ قيمة إنسانية، لكنه في نفس الوقت بارع في العلاقات العامة لدرجة إقناع الإناث بأنهن لا يستطعن العيش دونه”، أو كما تقول هي في بيانها الأشهر “بيان الحثالة” أو “نحو مجتمع بلا رجال-SCUM”:

إن الرجال غسلوا مخ الإناث، وأقنعوهن بأنهن جزء منهم، وأن لهم الحق في السيطرة عليهن.

في هذا البيان، دعت فاليري النساء إلى التخلص من غسيل المخ هذا بالعنف، التخلص من الرجال: المغتصبين، السياسيين، الفنانين الرديئين، رجال الشرطة، الكذابين، المتطفلين، الرجال الذين يتكلمون عندما لا يكون لديهم شيء ليقولونه. لم ترغب فاليري في المشاركة في مسارات ولا مظاهرات ولا إلقاء خطب، أرادت فقط التخلص من هؤلاء الرجال ببساطة وبشكل موحد. كل هذا كتبته في بيانها، ثم قامت بطباعته مقابل إجراء حديث شخصي مع مالك مطبعة، ووقفت لبيعه في الشارع مقابل 50 سنتًا للنساء ودولار واحد للرجال.

لو لم تكن فاليري أطلقت النار على آندي وارهول لضاع هذا البيان للأبد، لكن السؤال الذي كان يدور في ذهني: لماذا اختارت وارهول بالذات لتحقيق انتقامها من جميع الرجال؟ لماذا لم تبحث عن أبيها المجرم، أو أحد الرجال الذين قاموا بالممارسات الشاذة معها، أو هؤلاء الذين سخروا منها وضربوها وطردوها؟ أعتقد أن فاليري لم تشعر بإهانة أكبر من إهانة التجاهل، من إهانة فنان من المفترض أنه مر بنفس ظروفها، وتعرَّض لنفس الاضطهاد الذي تعرضت له، لكنه انسلخ من جلده بمجرد تحقيقه لبعض الشهرة والمال، نسي ماضيه، وتحول الفن من تقدير معنوي إلى مجرد غطاء مادي.

هوليوود قاسية جدًا، أيّ مجتمع إبداعي هو بالفعل مجتمع قاسٍ، لا يمتّ لجوهر الفن بصلة. في الفترة الماضية، شعرت بنفس شعور فاليري من التجاهل وعدم التقدير، كنت أفكر بأن القيمة المعنوية للفن تتوارى خلف هيبة السطوة والمنصب، وأحيانًا المال، فكرت في أنصاف الموهوبين الذين يتربعون على قمة النجاح، الذي يفترض أنه نجاح فني وإبداعي، لمجرد امتلاكهم مزايا مادية، علاقات واسعة أو جنسية أخرى. هالة من الهيبة تلفهم وتجعل كل ما ينتجونه يُقابَل بالترحاب، في مقابل عشرات ومئات الفنانين الذين لا يملكون سوى فنهم، والذين يقفون متوارين في الظل، يُنظَر إليهم باستخفاف، وقد لا يُنظَر إليهم على الإطلاق.

قبل أن تطلق النار على وارهول، تنازلت فاليري عن حقوق كتاباتها لناشر مقابل مبلغ 500 دولار. لم يمر وقت طويل حتى اكتشفت أنها استسلمت لسطوة المال، انهزمت أمام كل ما تعارضه، قوة ناشر رجل بات قادرًا على السيطرة عليها، والأسوأ السيطرة على طريقتها الوحيدة للتواصل مع العالم، وهي الكلمات. بالتأكيد هذه هي اللحظة التي فكرت فيها في أول شخص أجبرها على التنازل، أفقدها الأمل الوحيد الذي كانت متعلقة به. أضاع مسرحيتها التي طبعتها بيديها على الآلة الكاتبة، ربما دفعت في ثمن الورق والحبر آخر ما تملك. وارهول أضاع روح فاليري يوم أخبرها بأن المسرحية اختفت، وأنه سيعوضها بدور حقير في فيلم.

أعرف جيدًا ما كانت تفكر فيه عندما اتجهت لشراء مسدس وحقيبة، عندما ارتدت معطفها الثقيل ووضعت الكثير من أحمر الشفاه على شفتيها. نظرت فاليري في المرآة فرأت الطفلة التي اغتُصِبَت، عُنِّفت، ضُربت، عُذِّبت، الفتاة التي تخلت عن طفلين وهي في عمر السادسة عشر، الفتاة التي تتسول في الشارع، والتي تكتب لتعيش، فماتت روحها عندما سلبوا منها هذا الحق.

اتجهت فاليري إلى “المصنع”، وظلت تحوم حول مكتب وارهول صعودًا ونزولاً في المصعد حتى ظهر، ابتسمت وأطلقت رصاصتين أخطأتا الهدف. توارى وارهول خلف المكتب، فصعدت فوقه، وأطلقت رصاصة اخترقت رئتيه وطحاله وكبده ومريئه ومعدته، ثم أصابت الناقد ماريو أمايو إصابة خفيفة، وحاولت إطلاق النار على مدير أعمال وارهول، فريد هيو، لكن المسدس علق فغادرت المبنى.

سلمت فاليري نفسها إلى ضابط شرطة مروري، معترفة بالجريمة، وعندما ساقها رجال الشرطة إلى السيارة، كانت تبتسم مخرجة لسانها إلى الكاميرات.

عندما تخذل الكتابة الكاتبة

وجَّهت المحكمة إليها، في يونيو 1968، تهم محاولة القتل العمد وحيازة سلاح دون ترخيص، وبعد جلسات وفحوصات طبية، أودِعت في مصحة نفسية. وفي الشهر نفسه، أصدرت دار أوليمبيا للناشر موريس جيرودياس، كتابها “بيان الحثالة”: S.C.U.M. Society for utting Up Men.

قوبل البيان باحتفاء من الحركات النسوية، وحاولت بعض قائداتها التواصل مع سولاناس والدفاع عنها، لكنها رفضت تمامًا، مؤكدة أن هذه الحركات النظامية لا تختلف كثيرًا عن وارهول؛ مجموعة من الأشخاص المستغلين الذين لا يفهمون بيانها ولا يعملون سوى لمصلحتهم. كانت سولاناس تعادي الجميع، حتى أنها هددت رئيسات الجمعيات النسوية بإلقاء الحمض على وجوههن، وبعد خروجها من المصحة، واصلت تهديداتها لوارهول، فسُجِنت مرة أخرى لمدة ثلاث سنوات.

من الغريب أن هذا البيان الذي استخدمته كوسيلة للتواصل، كوسيلة لانتقاد المجتمع، على الأقل من وجهة نظرها، أبعدها أكثر، حتى الكلمات خذلت سولاناس، خذلتها الكتابة وزادت من عزلتها، وباتت وحدتها أكثر توحشًا.

عندما خرجت سولاناس من السجن، كانت قد انتهت، لم يكن هناك ذرة ضوء في حياتها، حتى هويتها التي حاربت من أجلها انتُزِعت منها، بعد إصرار الشرطة والصحافة على إلحاق اسمها بلقب “ممثلة” وليس “كاتبة”. كانت موصومة ومنعزلة، تُطرَد من كل مكان تدخله بسبب غرابتها ومظهرها، كل ما كانت قادرة على فعله هو الانعزال في غرف الفنادق الرخيصة، تراجع بيان SCUM، وتعمل على سيرتها الذاتية. ولكن الفقر والمرض سلباها هذه المتعة الأخيرة، فماتت بسبب الالتهاب الرئوي عام 1988 في سان فرانسيسكو.

ظلت جثة فاليري في غرفتها لمدة ثلاثة أيام، لم يتذكرها أحد أو يتساءل عن غيابها، عدا مشرف المبنى الذي اتجه إلى غرفتها ذات مساء للمطالبة بالإيجار المتأخر، ليجدها جثة منكفئة على الآلة الكاتبة. ماتت فاليري سولاناس وهي تكتب، وهي تمارس الفعل الوحيد الذي أحبته، لكنه رغم ذلك لم يحبها.

اقرأ أيضًا: ميّ زيادة: لعنة الجمال والموهبة

اقرأ أيضًا: إلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة

اقرأ أيضًا: نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد
المقالة السابقةهل نتغير بعد الزواج؟
المقالة القادمةبالأسعار: 15 هدية تناسب صاحبتك لو جابت عربية جديدة
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا