أحبك ولا أثق في تصرفاتك
الجسم الساكن يبقى ساكنًا، والجسم المتحرّك يبقى متحركًا، ما لم تؤثر عليه قوى ما.
حياة زوجية عادية بين رجل وامرأة تجمعهما الحميمية التي تظهر في كل لمسة وكلمة بينهما، والحب الذي يغطي على نمطية حياتهما ويجعل الاختلافات مجرد عثرات بسيطة ممكن تجاوزها. طالما أن الحب موجود فالحياة ساكنة والآلام محتملة والعيون لا ترى إلا كل جميل، لكن هناك نقطة ما في اللا إدراك تجعلنا لا ننسى ولا نغفر ما يُقترف باسم الحب. تبدأ حكاية “هنا” و”حازم” في عالمهما الجميل ومشاركتهما في المنزل والعمل، وقد اتخذا قرارًا بأن تسافر “هنا” الحامل في شهرها الخامس بعد عملية تلقيح صناعي لتضع مولودها في أمريكا على أن يلحق بها “حازم”.
نجد “حازم” الحبيب العصبي الذي يسعى بعفوية إلى امتلاك شريكته من خلال الإيحاء لها بأنها قليلة الحيلة وأنها لا تستطيع أن تتصرف بدونه، دائمًا يعنفها على أنها لا تحسن التصرف، لم يفكر أن يمنحها ثقته لتتصرف بأريحية، كان دائمًا صاحب القرار وصورة للأب في شكل زوج. الأب بما فيه من حنان وتحكم. كذلك كانت أم “هنا” شخصية تقلل من قدرات ابنتها وتدفعها للقرارات التي تراها مناسبة بصرف النظر عن رغبات ابنتها. تقف “هنا” المرأة التي لا ثق تمامًا بنفسها، التي تخاف الظلام والكلاب والوحدة، التي لم تتخذ قرارًا فرديًا من قبل، لتجد نفسها أمام الاختيار الكبير بين أن تبقى في أمريكا أو تعود إلى مصر، فرصة لإثبات أنها أهل للثقة، أنها “ست ناصحة” كما أنكر زوجها، أنها تستطيع أن تدير حياتها كما استنكرت أمها، من هنا بدأت قوة البُعد، فلم يبق جسم علاقتهما ساكنًا كما كان.
أحبك لكنني أتغيّر
إذا أثرت قوة على جسم ما فإنها تكسبه تسارعًا، يتناسب طرديًا مع قوته وعكسيًا مع كتلته.
في مشهد لـ”هنا” وهي تجلس مستندة إلى شجرة، تفكر في “حازم” وفي حبها له وافتقادها لحياتهما، تسجل له رسالة صوتية طويلة تبثه فيها مشاعرها وتفتح قلبها في مرة نادرة، وهي التي تتحدث إليه دائمًا في حذر خشية أن تُخطئ. لكنها مع ذلك حذفت رسالتها وكتبت بدلاً منها رسالة قصيرة لأختها لتطمئنها عليها. في هذه اللحظة أدركت “هنا” أنه لا فائدة من الحُب إذا كان لا يجعل الشريك أكثر تفهمًا ولطفًا. بدأ العِند يلعب لعبته وبدأت تدرك ضرورة أن يبادر هو بالتعبير عن الوحشة والحب بدلاً من الشجار والصراخ المستمرين.
لم تكن القوة التي أثّرت على “هنا” هي فقط قوة البُعد عن شريكها، وهي الشخصية الاعتمادية التي لم تجرب مجابهة الحياة وحدها. لكن أيضًا قوة التغيير. فمع كل مشكلة وقعت فيها “هنا”، كل ألم وخوف وصدمة، جزء فيها كان يشتد ويقوى ويتغير، كان عليها أن تتخذ القرارات وحدها، حتى وإن كانت قرارات غير صائبة، لأن لا أحد في حذائها (كما يقول التعبير الإنجليزي)، لا أحد يرى من مكانها ويدرك عامل الوقت مثلها. كان الثابت الوحيد هو مبادئها وإخلاصها للحبيب وحفاظها على الطفل، وكل ما دون ذلك لا يشغلها.
لكن ما الذي جعل “هنا” تدخل في دائرة من الكذب الذي أدى بها إلى مصائب متتالية؟ الإجابة هي: الخوف من التعنيف. ما زلت أذكر عندما كنت في مول تجاري وطلبت مني فتاة أن أرد على شخص على هاتفها وأؤكد له أنها في المول. عرفت مرات عديدة زوجات أخفين شيئًا عاديًا وبسيطًا على شركائهن بسبب خوفهن منهم. بعض البنات يزرن أهاليهن سرًا خوفًا من النكد. البعض يتخلصن من الطعام في السر، يتخلصن من القميص الذي أفسده الغسيل في السر، أعرف أمهات عندما يحدث أمر خطير لابنها تخاف من ردة فعل أبوه أكثر من خوفها على ابنها، اعتادت النساء إخفاء المشكلات الصغيرة، وحتى جروحهن حتى لا تتعرضن للتوبيخ والكلام المسيء الذي يدمر ثقتهن القليلة في أنفسهن. وهذا ما حدث مع “هنا”.
اقرأ أيضًا: لعبة نيوتن: “هنا” نتاج طبيعي من أم متسلطة
كل شخصية مهزوزة تلجأ إلى الكذب والإخفاء وراءها بالأساس شخص عصبي وعنيف لا يمتلك ثقة كافية لا في نفسه ولا فيها. كل اتصالات “حازم” الغاضبة وصراخه وتهديده وحلفه بالطلاق ثم طلاقه الشفاهي، كلها أسباب جعلت “هنا” تتخبط وتأخذ قرارات متهورة تحيد بها عن الحب. كل كلمة قاسية كأنها مضرب كرة، تطوح معها المشاعر بعيدًا. بدأت “هنا” تدرك القسوة خصوصًا تلك التي تأتي في أوقات الضعف. لذلك جسم العلاقة الساكن عندما تعرض لقوة خارجية ما كان منه إلا أن يسرع ويتحرك بهواج وخوف مُصرًا على أنه “لا أريد الرجوع لهذا الألم” حتى لو كان يتحرك باتجاه الهاوية.
اقرأ أيضًا: ثقافة الاعتذار: كم “حازم” بالحياة؟
أحبك.. وأرد على الأذى بأذى
لكل قوة فعل قوة رد فعل، مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.
يحدث أن يظلم الشخص شريكه في العلاقة بعد أن يتعرض للكثير من الضغوط، خصوصًا وإن كان شريكه أحد هذه الضغوط. تتغير القناعات في الحب بسبب المواقف المسيئة المتكررة، أحيانًا تتغير بسبب البُعد، وأحيانًا بسبب التحمّل، وكثيرًا بسبب الإحباط. “حازم” لم يتغير، لكن “هنا” كانت تتغير وكأنها تولد من جديد، في خضم هذه الولادة لشخص آخر يرفض التعنيف والإهانة، تمر لحظات ضعف وتأرجح عنيف في الرغبات بين حضن الحبيب وتركه نهائيًا. وتصبح ردود الأفعال كبيرة وفارقة. يفكّر “حازم” أنها “لم تسمع الكلام”، تفكّر “هنا” أنه “يريد أن يعيدني ليعايرني بسوء التصرف”، يفكر “حازم” أنها “تستحق الطلاق”، وتفكّر “هنا” أنه “يستحق اللا رجعة” يتصرف كل منهما بظلم وعِناد وأذى حتى لو كان ضد مصلحتهما.
كنت أتحرّق شوقًا لمشهد مقابلة “هنا” لـ”حازم”، وكم تخيلته سيكون مشهدًا رومانسيًا خلابًا كأفضل مشهد للنهاية، لكن في هذا المسلسل لا نجد إلا الحقيقة ومحاكاة الواقع البعيد عن الأحلام الوردية، أو ربما أنها تحدث لكن في توقيت مختلف عن توقعاتنا.
تغيرت قناعات “هنا” أصبحت تريد الحماية لا الحب، تريد الاحترام المتبادل لا الإهانة المتبادلة، تريد الصبر والتقدير والتشجيع حتى لو في مقابل العاطفة الكبيرة. تريد “الشبكة” والهدايا والأمان المادي، وكل ما أقصته من علاقتها السابقة التي اكتفت فيها بوجود طائر الحب الجميل. لكن في خضم هذا التغيير عادت “هنا” إلى شخصيتها الاعتمادية، نست طريقها في إثبات ذاتها والتغيير. أعادتها صدمة حرمانها من طفلها مع بُعد “حازم” وطلاقه لها إلى نفسها القديمة التي تتشبث بمن يمنحها المساعدة. لم يكن قبولها للزواج من آخر إلا طريقة لقول “شكرًا”، للوحيد الذي وقف جوارها، و”آسفة” لن أعود لمن كان مفترضًا أن يقف إلى جواري.
ربما كمشاهدين لن نتسامح مع شخصية “هنا” بسهولة، لأننا اعتدنا على لوم المرأة التي تتخلى أكثر من لوم الرجل الذي يُطلّق، وكأن الطلاق دُعابة لا تستحق رد فعل كبير وحتى لو كان مُتسرّعًا ومؤذيًا. لن نتفهم لحظات الضعف التي تتبع القسوة، والقرارات الخاطئة التي تنبع من التعب والإحباط. أجمل ما في مسلسل “لعبة نيوتن” أنه يواجه الناس بشخصيات لها وجوه متعددة، شخصيات من دم ولحم ونوازع الخير والشر، يضع أمامنا مواقف لها العديد من التأويلات، يجعلنا جزءًا من الحكاية ويجعل كل مشاهد يجد نفسه في جزء من الحكاية. لكن يبقى أبرز ما في لعبة نيوتن وقوانينه هي خدعة الحب.
اقرأ أيضًا: خلي بالك من زيزي: كيف يمكن للفن أن يغير العالم؟