حديث الصباح والمساء: عصر تدور أحداثه كلها في البيت

3680

ها هنا الحياة.. كل الحياة، حياة “جليلة” و”نعمة”، وحتى حياة “هدى هانم” و”سنية هانم الوراق”، بطلات مسلسل “حديث الصباح والمساء” الشهير، حياة لا يحتاج سردها إلى تغيير الكثير من الديكورات، هو ديكور واحد لأن حياتهن بأكملها تتابع أحداثها وفصولها وحتى الشخصيات التي تلعب دور البطولة في حيواتهن هنا.. في بيوتهن، سواء أكان هذا البيت منزل في حي شعبي أو قصر بحديقة كبيرة.

حياة أبطاله تقع أغلبها في البيت، بين هذه الجدران التي نتملص نحن الآن من طول المكوث بها، نشعر بالاختناق، بالملل، بالإحباط يضرب بجناحاته لكي يُظلل مكاننا، فيُخيم الظلام ولا نستطيع رؤية بعض النور إلا بصعوبة

يقع الكثيرون منّا في غرام مسلسل “حديث الصباح والمساء”، البعض يلتمس فيه الدفء والحياة الأسرية البسيطة، والبعض يلتمس بعض الاطمئنان من روحانية “جليلة”، التي لعبت دورها ببراعة عبلة كامل، والبعض يلتمس الحكمة التي كان ينطق بها “يزيد المصري” أحمد ماهر بين المشهد والآخر، والبعض يحب جمال “هدى هانم” ليلى علوي الثريّة الحسناء، التي أطلّت من عليائها لتختار فارسها دون كثير حسابات ودون شبهة كبر أو غرور أو استعلاء، حتى وإن كان هذا الفارس هو صانع الأحذية، أيّاً ما كان السبب الذي يدفعك لحب المسلسل، هناك شيء رُبما تستطيع مُلاحظته إذا شاهدت المسلسل خلال فترة الحجر الصحي والعزل المنزلي التي نحياها هذه الأيام.

لن أُطيل عليك، فما لاحظته في مشاهدتي الأخيرة للمسلسل أن حياة أبطاله تقع أغلبها في البيت، بين هذه الجدران التي نتملص نحن الآن من طول المكوث بها، نشعر بالاختناق، بالملل، بالإحباط يضرب بجناحاته لكي يُظلل مكاننا، فيُخيم الظلام ولا نستطيع رؤية بعض النور إلا بصعوبة.

لا تتنقل “جليلة” بين الكافيهات لمُقابلة الأصدقاء، ولا تجري “نعمة” بأطفالها من البيت للمدرسة للنادي للكيدز إيريا. “جليلة” و”نعمة” صديقتان مُقربتان، رُبما لا تعرف إحداهما صديقة غير الأخرى، ومع ذلك، لا يُظهرهن المسلسل يتنقلن كثيرًا مع بعضهن بعض أو يُكثرن من المُقابلات.

لا يقتصر الأمر على بطلات المسلسل فقط، بل أبطاله أيضًا، رغم أنهم يمارسون أعمالهم بالخارج لكسب الرزق، ويترددون على وظائفهم ومحال عملهم، إلا أن أغلب أحداث حياتهم التي ينقلها المسلسل تقع هنا أيضًا، في البيت، الشخصية الوحيدة، التي رُبما بروزها المُسلسل مُختفية عن البقاء في البيت كانت شخصية “داوود المصري” خالد النبوي، الذي خطفته الحكومة لتجعله يتلقى تعليمه بالخارج، وعلى مسار حلقات المُسلسل، تجد “داوود المصري” مُتخبطًا تائهًا لا يبحث إلا عن جذره.

داوود.. وجليلة

“جليلة” التي ثبتت قوة روحها أقدامها على الأرض، ليست كما “داوود” مُشتتة ولا تائهة، هي اختارت لنفسها يقينًا عميقًا بماهيتها وبمكان وجودها وأين ستخطو قدماها في الخطوات التالية تحديدًا

في سبيل إيجاد الجذر كان “داوود” يتكبد عناء الحفر عميقًا من أرض إلى أخرى باحثًا عن هذا الجذر، الذي يوقن أنه يحمل له الطمأنينة وهدوء البال والحال، رُبما هي الطمأنينة التي حُرم منها عندما حُرم من حضن أبيه صغيرًا، أو عندما اختُطف بعيدًا رغمًا عنه ودون تمهيد واختفت من أمام عينيه صورة الجدران التي يألفها ويشعر بالأمان بينها، ورُبما عندما حُرم من تنسم رائحة طعام أمه قبل أن تجتمع أسرتهم الصغيرة على طاولة الطعام، لكن المؤكد أن الحيرة العميقة والتخبط الشديد اللذين عانى منهما “داوود”، لم يُعان منهما “عزيز” أخوه الموظف البسيط، الذي لم يحظ بتعليم خارجي عالي الجودة مثل أخيه، والذي لم يُحرم أنس البيت ودفء حضن الأم.

قدّم مسلسل “حديث الصباح والمساء” أيضًا شخصية “جليلة”، التي ثبتت قوة روحها أقدامها على الأرض، ليست كما “داوود” مُشتتة ولا تائهة، هي اختارت لنفسها يقينًا عميقًا بماهيتها وبمكان وجودها وأين ستخطو قدماها في الخطوات التالية تحديدًا، تلك المعرفة العميقة التي سمحت لها أن تقرأ من أنباء الغيب ما شاء لها الله قبل وقوعها بشكل مادي.

كانت “جليلة” تنظر إلى كل شيء نظرة إيمانية عميقة، بلا كثير من البلاغة أو التعبيرات اللغوية المُنمقة كانت تقول حكمًا صوفية خالصة تتناسب مع كل موقف توضع فيه، حكم تتشابه مع تلك التي تتردد على لسان أمهاتنا وجداتنا، لا تحتاج لكي تتصالح مع نفسها وحياتها إلى الكثير من الأصدقاء أو الأنشطة أو التنقل جريًا من مكان إلى الآخر.

كانت “جليلة” قادرة على مواجهة نفسها، وقادرة على مواجهة حتى عفاريتها، تلك العفاريت التي أظهرها المُسلسل في صورة جني حقيقي، هو “أبو الحسن”. العفاريت ليست لدى “جليلة” فقط، بل لدينا جميعًا، وإن لم تكن في صورة جني كما “جليلة”. العفاريت التي تتمثل في الهواجس والمخاوف والشكوك والرغبات الحارقة التي تخرج عن إطار الآمال الطيبة الجميلة، والتي تستطيع بلا كثير جهد أن تحرق القلب وتلتهم الروح.


الأمر ليس مللاً من البقاء في المنزل فقط.. نحن غير قادرين على مواجهة أنفسنا

سيقوم دماغك بإقناعك بفعل أي شيء تريده خلال هذا الوقت. ستأكل شريحة إضافية من الكعكة أو ستنام لعدد لا محدود من الساعات، ستفعل أي شيء يبدو مُريحًا لك حتى وإن كان ضارًا، الأهم هو ألا تجد نفسك وحيدًا مُنفردًا أعزل أمام أفكارك

تقول نيكول ماكينس، خبيرة العلاقات وعلم النفس: “بعد أن تسببت جائحة COVID-19 في إغلاق جميع الخدمات غير الضرورية، والتي وصلت إلى حد المُقاطعة التامة والكاملة لبعض الأنشطة، وجدنا أن كل إستراتيجياتنا للتشتيت لم تعد مُتاحة، وكل المُشتتات التي نلجأ إليها عادةً، سواء كانت الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية أو تناول المشروبات مع الأصدقاء في المقاهي، وغيرها، أصبحت فجأة غير موجودة وبعيدة المنال لأجل غير مُسمى”.

تُضيف ماكينس: “أصبح معظم الناس في المنزل وحدهم، ويجلسون فقط بصحبة أفكارهم، وهذا ليس بالشيء الجيد عادةً، بل ليس من المبالغة القول إن هذا أمر مخيف، جزء من مساوئ الأمر تتمثل في أنه لدى الناس المزيد من الوقت للتفكير والمعالجة الآن أكثر من أي وقت مضى. ربما يستعيدون رشدهم بشأن أشياء هامة سابقة، وقد يقيمون الأحداث التي مرّت عليهم ويريدون أن يبدو مستقبلهم مختلفًا عن ماضيهم، خصوصًا بعد إدراك أن الحياة قصيرة”.

أما إيمي تشان، خبيرة العلاقات في مانهاتن، فتقول لصحيفة The Post عن المشاعر التي يُعاني منها الكثيرون خلال فترة الحجر الصحي الحالية: “يتحكم الوباء في نظرتنا تجاه أغلب الأمور حاليًا، سيقوم دماغك بإقناعك بفعل أي شيء تريده خلال هذا الوقت. ستأكل شريحة إضافية من الكعكة أو ستنام لعدد لا محدود من الساعات، ستفعل أي شيء يبدو مُريحًا لك حتى وإن كان ضارًا، الأهم هو ألا تجد نفسك وحيدًا مُنفردًا أعزل أمام أفكارك”.

متى أصبح الأمر بهذه الصعوبة؟

متى أصبحت الحياة بهذه الصعوبة؟! متى أصبح أشدّ ما نواجهه هو مُلاقاة أنفسنا؟! متى أصبح الجري واللهاث وكثرة المهام والشعور بكثرة المُنجزات، هو وسيلتنا الوحيدة للحياة، والتي نضيق ذرعًا بغيرها؟!

هل نحن جميعاً الآن “داوود المصري” مع الاختلاف فقط في طريقتنا للهروب؟! نحن نهرب من أنفسنا بكثير من المُشتتات ووسائل الإلهاء، ولا نطيق مُقابلة أنفسنا وجهًا لوجه، لأننا نعرف أننا إذا قابلناها سنُحرم حتى النوم ليلاً.

أعتقد أن كل ما علينا الآن هو الاستسلام، القبول، قبول المكوث في البيت، قبول التباعد الاجتماعي، قبول توقف الجري واللهاث، لن أقول بأن نستمع بالكامل إلى ما يدور في رؤوسنا، لأن هذا أمر رُبما قادر على قتلنا، ولكن علينا فقط مُحاولة فلترة الثمين عن الغث مما يدور في رؤوسنا، واستخلاص الثمين لكي نحصل على فرصة أفضل في التعرّف على أنفسنا وموقعنا على خريطة المارين بهذه الحياة، المارين الذين فقط يدخلون الدنيا من هذا الباب ويخرجون من ذاك، دون أن يشعروا حتى أنهم قضوا الكثير من الوقت، لأننا بالفعل لا نقضي هنا الوقت الكثير كما نعتقد ونظن.

اقرأ أيضًا: بدلة رقص حمرا وبترتر

المقالة السابقةرمضان كريم جدًا رغم كل شيء
المقالة القادمةوحدي لكن ونسان وماشي كده خواطري
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا