ليلى مراد.. التي أرادت أن تكون بنت باشا فأصبحت ملكة الغناء

657

بدأت علاقتي بليلى مراد منذ الطفولة، وقد تربيت على أفلامها مثل “ليلى بنت الفقراء” و”ليلى بنت الأغنياء” وتكونت حولها في ذهني الصغير هالة مضيئة، فهي جميلة بملامح مميزة بها رقي شديد، مختلفة عن دلع شادية، ورقة فاتن حمامة، تحمل أعمالها الفنية اسمها وهي محور أحداثها، متزوجة في الحقيقية من بطل أفلامها الدائم أنور وجدي، ما عزز الصورة الرومانسية التي أضفيتها على حياتها.

 

كبرْتُ وتوقفت عن مشاهدة الأفلام الأبيض والأسود، وبدأ تعلقي بالأغاني خصوصًا القديمة، وتعرفت على وجه آخر لليلى، ذات الصوت الملائكي الذي أعطاها لقب “قيثارة الغناء العربي” عن جدارة.

 

ولكن حدث تحولاً كبيرًا في نظرتي لليلى بعدما وقع بين يدي -عن طريق الصدفة وحدها- كتاب “ليلى مراد” للكاتب “صالح مرسي”، لأتعرف عليها من جديد، وأكتشف أن هذه الملامح الملكية والصوت الملائكي، خلفهما معاناة فتاة مراهقة، ثم امرأة عاشقة، وأن قرار اعتزالها الغناء والناس لم يكن قرارًا غريبًا إذا ما تمعن المرء في ماضيها.

 

إبداع ليلى مراد في الغناء والتمثيل كان خلفه ألم عظيم، ربما لم يعرف عنه الكثيرون، ولكنها بموهبتها استطاعت تحويل كل ما قاسته إلى فن راقٍ باقٍ حتى الآن يمتعنا ويطربنا.

 

الطفولة التي تتأرجح بين السعادة والألم

بدأت حياة ليلى في منزل فني، فوالدها زكي مراد كان مغنيًا وملحنًا شهيرًا في عصر المسرح الغنائي الذهبي، وتزوج “جميلة” بنت صديقه محب المغنى والطرب، على الرغم من رفض كل أفراد عائلتها الآخرين، لينجب منها الكثير من البنين والبنات، يموت منهم من يموت، ويعيش منهم ما يكفي لتصبح الأسرة كبيرة العدد والأعباء، ومنهم ليلى أكبر الفتيات.

 

كالكثير من فناني عصره، عاش زكي حياة مادية متقلبة، في البداية كانت عائلته تسكن في شقة متسعة الحجرات، وتذهب ليلى لمدرسة راقية، تعايش بها بنات الذوات والعائلات الكبيرة والباشوات، تشعر أنها قريبة من عالمهن وتتمنى أن تصبح واحدة منهن في يوم من الأيام، وتتميز بصوتها العذب.

 

بعد سنوات قليلة يقرر زكي السفر لتونس في رحلة لن تزيد عن أربعة أشهر، لكنه يغادر تونس إلى فرنسا والولايات المتحدة، وتمتد الرحلة لأربع سنوات كاملة، في بدايتها كان يرسل الأموال بلا حساب، كفلت للعائلة أمانًا ماديًا ومنزلة اجتماعية جيدة، ولكن بالتدريج بدأت تقل ثم انقطعت تمامًا، لتجد الزوجة نفسها أمام معضلة الحياة مع هذا العدد الكبير من الأطفال بدون أي دخل، وتبدأ في بيع أثاث منزلها قطعة بعد الأخرى.

 

سنترك حال الأسرة قليلاً ونعيش الواقع الجديد بعينيّ ليلى ذات أربعة عشر عامًا، التي قالت عن تلك الفترة إنها تعودت على افتقاد قطع الأثاث، لكنها لم تسأل، فالكل يعرف مصيرها لكن يصمت، وفي النهاية وجدت أن عبء الأسرة يقع على كتفيها الصغيرتين، بعدما ترك الأسرة واستقل بنفسه أخوها الأكبر، وبالفعل تترك المدرسة وتلتحق بمدرسة التطريز لتتدرب ثم تكسب 7 قروش يوميًا، وتأتي راهبات المدرسة بصورة يومية لإقناعها بالعودة للمدرسة مجانًا، لكنها تدَّعي المرض لالتزامها بعملها الجديد لإعالة عائلتها.

 

فنانة رغم أنفها

يحضر الوالد الغائب بعد عمل ليلى، ولا يعجبه الواقع الجديد الذي تعيشه عائلته، ولكن لا يستطيع تغييره، وبعد سهرة مع أصدقائه من الفنانين، يقترح أحدهم أن تحترف الصغيرة الغناء، يعترض الأب في البداية، وتقف ليلى من وراء الأبواب تستمع إلى الكلمات التي تحدد مصيرها دون أن تستطيع المشاركة في ذلك، كانت تعرف أن رفض والدها الحالي سيخفت ويضعف مع الأيام، وأن إعالة الأسرة لن يكون عبئًا على كاهلها لبعض الوقت حتى يرجع والدها من سفره، بل وظيفتها طوال حياتها، وفي استسلام شهيدة انتظرت قدرها المحتوم.

 

الكثير يظنون أن احتراف مطربة ذات صوت رائع للغناء سيكون خبرًا مفرحًا لها، ولكن بالنسبة لليلى كان لطمة جديدة من القدر، تبعدها خطوات عن الحياة التي حلمت دومًا بها، حياة الرفاهة الوادعة لبنات الأسر الراقية، ولكنها وضعت مصلحة أسرتها أمامها، والنقطة الوحيدة التي استطاعت التحكم فيها هي ارتداؤها اللون الأسود في كل الحفلات التي تحييها، كحداد على الأحلام التي تفقدها الواحدة تلو الأخرى.

 

عندما يصبح الحب بابًا لألم جديد

نبع إبداع ليلى مراد من ألمها، في البداية بتجولها من بلدة لأخرى لتقيم الحفلات برفقة والدها السِّكِّير، ثم بحبها العذري لمحمد عبد الوهاب، نجم جيله وفتى أحلام الفتيات، الذي صدمها عندما صارحته بمشاعرها.

 

مع السنوات نضجت ليلى فنيًا واكتسبت الشهرة، حتى وقعت في الحب للمرة الأولى، عندما ارتبطت عاطفيًا ثلاث سنوات برجل من عائلة أرستقراطية، وككل فتاة كانت ترى أن النهاية الطبيعية لحبها هي الزواج، وهو ما طلبه منها بالفعل، لكن بشرط واحد، هو اعتزالها الفن، وهو ما كانت مستعدة له تمامًا وستسعد به، لولا العبء الذي تتحمله ولا مفر منه، لتفقد حبها.

 

عاشت بعدها سنوات قاحلة عاطفيًا، تغني وتمثل الأفلام، يتضاعف أجرها العام بعد الآخر، حتى دخل حياتها كالعاصفة شاب طموح عاشق للسينما هو أنور وجدي، طلب منها بطولة فيلم “ليلى بنت الفقراء” الذي وضع فيه كل رأس ماله، ويخرجه أيضًا، وخلال تصوير الفيلم وقع في حبها، وتزوجا.

 

استمر زواج ليلى وأنور ثماني سنوات، وعلى عكس كل التصورات الرومانسية في عقول الفتيات عن هذه الزيجة الذهبية، عاشت ليلى حياة عصيبة يكللها غيرة أنور، الذي يرغب في الاستئثار بها، سواء من الناحية الفنية أو العاطفية، ولكنها لم تطلب الانفصال عنه إلا عندما اكتشفت خيانته مع فتاة فرنسية.

 

بطلاق أنور وليلى انتهى كتاب “صالح مرسي”، ولكن حياتها بالطبع لم تنتهِ، بل تزوجت مرتين بعد ذلك، الأولى من الأرستقراطي وجيه أباظة، ثم فطين عبد الوهاب، قبل أن تعتزل العمل الفني والناس حتى وفاتها.

 

ربما لم تستطِع ليلى مراد أن تصبح ابنة لواحد من الباشوات وأن تنتسب لعائلة أرستقراطية، كما حلمت في مراهقتها، وعاشت النجاح الذي لم تتمنَّه في شبابها، ولكنها بفضل موهبتها استطاعت أن تقدم إبداعًا لا يُضاهى، جعل كل العائلات الراقية تتقرب لها، وحتى ملك مصر وحاشيته كانوا من أصدقائها، وربما كان سبب تميز إبداع ليلى كونه نبع من ألمها.

 

 

المقالة السابقةلنكن بإبداعنا أكبر من الحياة
المقالة القادمة“نجومٌ على الأرضِ”.. عن العبقرية المغطاة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا