العالم بارد وقاسٍ.. يشعرك أغلب الأوقات بجسده الممتلئ بالجروح الدامية وقلبه النازف من جراء الألم والحروب ومخلفات الجوع ونقص المياه، إنه أشبه بالموتى الأحياء، جسدًا بلا روح أو حياة.
العالم يعشش فوق رأسه الغوغائية، وبداخله نفق الأمل فاحت رائحته، من يديه تسيل أحلام كبيرة أُغتيلت في لحظات قوة مفرطة، أو في قنبلة ألقيت لتمحو شعبًا، أو في حرب على سلطة تُديرها رؤوس تأمل في سيادة الأقوى حتى لو انسحقت رؤوس أخرى كانت فقط تأمل في الملاذ والأمان.
في هكذا عالم ترقد فيه الإنسانية معصوبة العينين وهي توقع على ألف معاهدة وألف وثيقة لسلام زائف ومعونات واهية، تنام ليلاً بنفس صافية وهي على دراية بأن أبواب السجون قد فُتحت لهؤلاء الذين خاضوا معارك الحق ضد الظلم الذي يحلق فوق الرؤوس فينهشها، والفقر بات مخيمًا في منازل فقدت أبسط حقوقها في طعام متاح بسبب وضع اقتصادي باهت المعالم، أعطى للغني ما يغنيه أكثر وتقشف على الفقير ولم يعطِه سوى الفتات.
دول تُباد كل معالمها وتُقصف بيوتها ومدارسها وتُكفن غارات الحرب أطفالها وهم ما زالوا يُزهرون.. تُغتال النفوس وتموت من القهر والمعاناة.
في هكذا عالم يطل الإبداع برأسه معبرًا عن الضحية المكتوم صوتها، يغدو هو حنجرتها التي تتولى الإفصاح عن الألم، تصير للكلمات قوة القنابل، وتصبح للموسيقى قدرة على الجلوس فوق رأس الخراب مطلقة ألحانًا محفزة على الحياة.. وتُخلد ضربات الفرشاة على اللوحات قصص الشعوب، وتروي ما عجزت الألسنة عن نطقه.
في هكذا عالم يخرج الفن مرتديًا أجنحة الملائكة البيضاء، يحاول أن ينير بيوتًا معتمة من الفقر أو يساعد نفسًا تخبو من الأمراض التي تحتلها، أو يُلهم قريحة شاعر يدنو من الموت أو رسامًا تآكلت رئته أو موسيقارًا نالت الحمى من أُذنه فطارده الصمم.
في اللحظات المعتمة التي يضيع فيها الطريق على المستوى الأعم للشعوب أو المستوى الفردي للأشخاص، يظهر دائمًا الإبداع كأداة منقذة من غرق النفس في بحيرات اليأس والكآبة وفقدان الأمل، يأتي مبشرًا بعلاج فعّال للقضاء على الألم أو حتى مسكنًا له لفترات.
يبدع الإنسان حين تعوزه الحاجة للنهوض والمقاومة، والإبداع الذي يُبعث من رماد الاحتراق يتميز بانفراده وخلوده، والتاريخ خير من أفاض علينا بالعديد من الشخصيات المبدعة والقصص الملهمة التي استطاعت عبر الفنون تخطي المعاناة بأشكالها العديدة المؤلمة، شخصيات أثبتت لنا أن المعجزة تكمن دائمًا فينا.. المعجزات لا تُمنح ولكن تُصنع من ذلك الإصرار الذي يشكلنا في النهاية إلى شيء بديع مليء بالنجاح.
في تلك اللحظات التي تصير فيها الروح في أسفل الجسد من الوجع، نجد تلك التي تطبخ بقلب وتذيب الهم في وصفات مبدعة، وذلك المُتحدي لإعاقته ليعزف على آلة تطلب من مجهوده الضعف، ولكنه يفعلها.. ونقابل أمهات يحاربن يوميًا اكتئاب ما بعد الولادة بإصرار عنيد عبر الكتابة وعبر الرقص.. ونقرأ لكُتاب بأقلامهم عبّروا عن معاناة أوطانهم وشعراء تغنّى لهم مطربون حملت حناجرهم رسائل ملهمة عَبرت كل العالم.
في لحظاتي المعتمة أتذكر بيتهوفن وتساعدني إليف شافاق، في لحظاتي المعتمة تأخذ بيدي بكرات الصوف الملونة وأشعر بالإنجاز حين تستطيع كوفية مغزولة على أخذ اليأس من الحياة بعيدًا، في لحظاتي المعتمة تحفز الكتابة مقاومتي وعبرها تغدو أشباح الوجع غير مخيفة، أتحكم أنا فيها بدلاً من تحكمها المحبط بي.
نسيان الشغف قد يقتل إبداعًا وليدًا ربما يُكتب له النجاح يومًا ما، الشعور بالتخاذل والتسويف والجلوس تحت أقدام الكلمات المحبطة لا يشفي الآلام ولكن يزيدها.. المواهب المختبئة خلف طواحين العمل اليومي قد لا تُدر أموالاً، ولكنها قادرة على سد ثقوب الروح المعتلة من أمراض الحياة. الفن لم يُكن دومًا رفاهية أو تعبيرًا عن اللا مبالاة في خضم استمرارية الصراعات، بل هو مساعد قوي لتخطي الأزمات الطاحنة، ومنه ينطلق صوت ينادي بحرية الآراء غافلاً من لم يأخذه على محمل من الجدية وحسب أن الفن درب من دروب التفاهات وليدة الكبت.
فالحضارات أقيمت بالإبداع، والشعوب صمدت بالفنون، ونحن نبدع لكي نعيش.