لحكايات عمن عاش ليحكي

461

في البداية، دعنا نتفق.

هذا المقال ليس لرثاء ماركيز أو نعيه. فالرجل الأسطورة كان قد توقّف بالفعل عن الكتابة، وتم إعلان إصابته بالخرف Dementia، في العام 2012.. لذا لو كان هناك رثاءً، لكان من الأولى أن يكون منذ عامين.. حين فقدت الكتابة واحدًا من أعظم من امتهنها. ولكن الكتابة في الأصل لم تفقده.. فالناس موتى وأهل الحَكيّ أحياءُ.

 

لن أسرد لكم نبذة عن حياته ونشأته؛ ويكبيديا لديها مقال غنيّ بهذه المعلومات. ولن أكتب لكم قائمة برواياته ومتى صدرت. لكنّي سأحكي عن علاقته بأمّه.. “لويسا سانتياجا ماركيز”. المرأة التي اختار اسمها ليكون كنيته. ليصبح الكاتب الأعظم في تاريخ الأدب والأشهر في العالم “ابن أمّه”.. والذي اختار أن يبدأ الحديث في الصفحة الأولى، بل السطر الأول، في سيرته الذاتية “عشتُ لأروي.. عنها”.

لويسا سانتياجا ماركيز.. ولدت في يوم القدّيس “لويس سانتياجو” فأطلقوا اسمه عليها. الاسم الذي كرهته وكانت تظن أنه اسم ذكوري وظلت تخفيه، إلى أن جاء ابن عاق وذكره في رواية(1). يحكي ماركيز أنها كانت حكّاءة بالفطرة.. ولا يعلم أين ومتى أتقنت هذه الألاعيب ولا من أخبرها بهذه التقنيات التي يُدرّسونها في ورش الكتابة، وتتطلب حياة كاملة من الشخص كي يتعلمها. كانت تُجلسهم لتحكي لهم قصصًا خيالية.. فتعرف متى تُهيئ ضربة مؤثرة، فتذكر أحد الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالحكاية، ومن ثَمّ تواصل الحكي دون أن تُشير إليه مرة أخرى.. ثم فجأة وقبل النهاية تمامًا.. تُخرجه من كُمّها كحاوٍ قدير.. قادر على إخفاء أرنب في حقيبته ثم إخراجه من أنفه.. أمام التماعة أعين الأطفال وشهقاتهم. فماركيز كان يفخر دائمًا أن نصف الحكايات التي بدأ بها تكوينه سمعها عن أمّه(2).

لا يعلم الكثيرون أن رواية “الحب في زمن الكوليرا”، والتي تم تحويلها إلى فيلم، هي قصة حب أبيه وأمّه. وأن المرأة القوية القادرة فيرمينا داثا بطلة الرواية هي أمّه لويسا سانتياجا.. التي غذّت مخيلة ابنها الحكّاء.. بالحديث شبه اليومي عن قصة ارتباطها بأبيه ورفض جده (أبيها) لهذا الارتباط ومحاربته، وإرسالها بعيدًا كي يتوقفا عن اللقاء، ولكي تهدأ فورة هذا الحب. لكن الأب الذي كان في البداية عامل تلجراف، حارب من أجلها، ودرس الصيدلة وتحول إلى صيدليّ، كي ينال مباركة ورضا العقيد نيكولاس ريكاردو ماركيز والد لويسا، وظل يلاحقها برسائل التلجراف وقصائد الحب وألحان الكمان الرومانسية، حتى استسلم العقيد ووافق على إتمام هذا الزواج.. ليُنجبا لنا فيما بعد، جابو!

غابرييل إيليخيو جاسيا ولويسا سانتياجا ماركيز سنة 1982 وبعد إعلان فوز “جابو” بنوبل

تتجلى علاقة ماركيز بأمّه واحترامه لها في القصة وراء كتابته لرواية “قصة موت معلن” والتي صدرت في عام 1981. حيث إنها مستوحاة من أحداث حقيقية، حدثت قبل عشرين عامًا من إصدار الرواية. كان ماركيز وقتها صحفيًا يتابع أحداث جريمة قتل حدثت في كولومبيا لأحد جيرانهم. وبعد أن جَمَع كل المعلومات وحان وقت نشرها في ريبورتاج صحفي، اتصلت به أمّه والتي كانت صديقة مقربة من أم القتيل وأمًا بالعِمادة للقتيل، وأخبرته: إياك أن تتجرأ وتنشر حرفًا واحدًا عن الحادث، ثم أغلقت الهاتف. فوضع “ماركيز” الهاتف وأضاع على نفسه سبقًا صحفيًا لمجرد الامتثال لطلب أمّه. وخلال 20 سنة، لم يفكّر ماركيز في القصة ولا في السبق الصحفيّ الذي أضاعه، حتى سافر إلى الجزائر وشاهد في المطار أميرًا عربيًا يحمل فوق ذراعه صقرًا مغمّم العينين. فتذكّر القتيل بطل القصة التي حدثت قبل 20 سنة، والذي كان مولعًا بالصقور. فاتصل بأمّه وطلب منها أن تسمح له بكتابة رواية مستوحاة من حادثة القتل. وكانت أم القتيل نفسها قد رحلت من فترة بعيدة. فصمتت لويسا لفترة اعتقد ماركيز أنها الأبد.. ثم قالت: ولكن عِدني أن تكتب عنه كما لو أني أنا أمّه. فمنحها الوعد. وجلس ليكتب الرواية. واختار اسمها “لويسا سانتياجا” ليكون اسم الجارة، التي هيّ أم القتيل أيضًا بالعمادة. ولم يذكر أن من ساعد في قتل البطل هي أمّه، (حين أغلقت الباب الخلفي للمنزل.. لحماية ابنها من القَتَلة. دون أن تعلم أن ابنها ليس في المنزل وما يزال يركض في الشارع محاولًا الوصول إلى المنزل كي يحتمي فيه. ليُقتل سانتياجو نصّار أم باب بيته المُغلق) إلا في الصفحة الأخيرة من الرواية، كي لا يسمح لنفسه أو للقارئ في الحديث عن هذا الأمر، وتحميل الأم الأرملة مسؤولية مقتل ابنها الوحيد.(3)

لويسا سانتيجا مع زوجها وأبنائهم وأحفادهم ابتهاجًا بفوز “جابو” بنوبل

 

البيت الذي وُلِد فيه ماركيز في تمام الساعة التاسعة صباحًا يوم الأحد 1927، في أراكاتاكا/كولومبيا. كان منزل جدّيه لأمه. ولم يكن ماركيز ليتذكره بهذه الصورة الواضحة التي جعلته مرئيًا لنا نحن القراء في معظم أعماله ورواياته، لولا حديث لويسا عنه. فهذا البيت كان على الدوام قِبلة الحكي لديها. الأمر الذي عزّز الانتماء إليه عند ماركيز. وفي عام 2010 قامت وزارة الثقافة الكولومبية بفتح أبواب المنزل الذي وُلِد فيه وقضى فيه طفولته للجمهور. فمنزل الأجداد الذي كان قد انهار قبل 4 قرون وخلّده ماركيز في معظم أعماله، تم إعادة تشييده تحت إشراف ماركيز وبناءً على ما روته “لويسا سانتياجا”، في نفس المكان، وتحويله إلى متحف يُجسد الحياة اليومية التي كان يحياها ماركيز فيه قبل أن ينطلق نحو العالمية.. والأبدية.

المنزل الذي وُلِد فيه ماركيز في أراكاتاكا/كولومبيا

 

__________________________________________
(1) المصدر: سيرته الذاتية “عشتُ لأروي”.

(2) المصدر: ورشة سيناريو “نزوة القص المباركة”.

(3) المصدر: سيرته الذاتية “عشتُ لأروي”.

* مصدر الصور صحيفة “الباييس” الإسبانية.

 

 

 

 

المقالة السابقةالطريق للوجبة الصحية
المقالة القادمةعفاريت اللعبة
نون
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا