فيلم Tully.. القويات هن الأمهات

744

أكتب هذا المقال على هاتفي الذكي٬ في شاشة صغيرة ولوحة مفاتيح ضيقة جدًا تجعلني أخطئ عددًا لا نهائيًا من المرات في السطر الواحد. بعد أن أنهي المقال سوف أرسله لنفسي في رسالة٬ أفعل هذا لأن طفلي الصغير لا يتركني أعمل على اللاب توب، فأنهي عملي على شاشة هاتف سوف تصيبني بالحول قريبًا جدًا. في النهاية سأفتح اللاب توب وأرسل المقال بسرعة الصاروخ عبر الإيميل، أعرف أنه مجهود مضاعف ولكنني مضطرة٬ لأنني إلى جانب عملي بدوام جزئي محررة٬ فأنا أعمل بدوام كامل أمًا.

 

منذ عدة أسابيع رأيت فيلم تشارلز ثيرون الجديد Tully، والذي لم أجد الوقت لأكتب مراجعته سوى الآن٬ أولاً لأن الفيلم يحتاج وقتًا لهضمه واستيعابه٬ وثانيًا للسبب الذي يصلح لكل الأشياء الغريبة التي تحدث في حياتي مؤخرًا٬ أنني أم.

عن “مارلو” التي تتكرر بلا انقطاع

يحكي الفيلم عن “مارلو”٬ الأم لطفلين والحامل في شهرها الأخير. “مارلو” أم محبة توصل ابنيها للمدرسة وتولي عناية خاصة بابنها الذي يعاني من مشكلات مبهمة٬ وتمازح ابنتها٬ وتزور أخاها وأسرته٬ وتقدر مجهودات زوجها في إعالة الأسرة.

 

تضع “مارلو” مولودتها٬ وتبدأ في التحول لماكينة بشرية٬ تسهر الليل٬ تغير الحفاض٬ ترضع مولودتها٬ تُحضِّر بيتزا لطفليها٬ تسهر الليل٬ تُغير الحفاض٬ تهدهد الرضيعة الباكية٬ تمسح الطاولة٬ تستخدم شفاط اللبن٬ تغير الحفاض٬ تسقط نائمة على الطاولة٬ تنتبه للطفلة بين يديها٬ تشرب قهوة علَّها تفيق٬ تسهر الليل وتغير الحفاض.

تستعين “مارلو” بمربية ليلية تُدعى “تالي”٬ ترعى “تالي” الطفلة ليلًا بينما تفسح الوقت لـ”مارلو” لتنال قسطًا من النوم٬ وتساعدها أثناء الليل في أعمال منزلية تخفف بها عن “مارلو” قليلاً٬ تتوالى الأحداث حتى تنكشف المفاجأة، والتي دونها كان الفيلم سيصبح تدوينًا لحياة الأمهات ليس أكثر.

عن الحياة التي تبتلعنا

“مارلو” كانت أمًا متفانية وزوجة مخلصة٬ رغم أنها في لحظة صدق سريعة مع “تالي” أخبرتها أن زوجها كان خطة بديلة، وأنها اختبرت كل أنواع العلاقات قبله. كانت “تالي” شخصًا جامحًا متهورًا يجرب كل شيء ويرغب في تجربة المزيد٬ كانت حياتها خليطًا من المغامرة وتعلم الأشياء الجديدة والعلاقات العاطفية والجنس والسفر٬ كانت حرة لا يقيدها أي شيء٬ ثم تغير كل شيء بعد الزواج وتغير أكثر بعد الإنجاب٬ وتصبح القيود التي تثبتها للأرض أكثر رسوخًا مع كل طفل تنجبه.

ابتلعت حياة الأم كيان “مارلو” تمامًا٬ أصبحت أمًا جدًا٬ تحاول استرضاء أطفالها مهما كلفها الأمر من إرهاق٬ وفاقدة للثقة في استحقاقها لجنس جامح وجيد بجسدها المرهق ذي العروق النافرة جراء الرضاعة٬ كانت “مارلو” مرهقة ليس فقط من أمومتها وتعقيداتها٬ بل من ثقل حياتها السابقة التي تضغط عليها، لتُذكِّرها كم كانت مختلفة تمامًا عما تعيشه الآن.

 

بينما “تالي”، الفتاة الجامحة الحرة ذات القوام الرائع والعقل المتقد، والتي تشبه “مارلو” كثيرًا وتختلف عنها أكثر، والتي أتت لتساعد “مارلو” على أن تكتشف كم هي قوية، وأن تفانيها في عائلتها وفنائها في دور الأم لم يتحقق سوى لأنها قوية جدًا، لا تقبل الانهزام ولا تقبل أن تكون ضعيفة، فتفعل كل شيء كي يتحقق الأفضل لها ولعائلتها التي تراها أولوية، وحتى إذا خذلتها قواها -لأنها بشر في النهاية- فهي تجد مخرجًا لتسير الأمور، وتنهض في كل مرة تسقط فيها دون الكثير من النحيب والعويل، وبوستات الفيسبوك التي تكتبها الأمهات اللاتي يتسلين بكونهن ضعيفات منهزمات أمام وحش الأمومة الكاسر، الذي روَّضته “مارلو” بالكثير من الألم والتضحيات.

 

يعرض الفيلم أكثر القضايا النسائية إشكالاً بطريقة قريبة جدًا من الواقع، دون فلسفة ودون شعارات٬ يناقش أزمة الهوية وحدود الإنسان ودور المرأة وكل المصطلحات التي يفردون لها المقالات والمؤتمرات٬ عن طريق شخصية “تالي” التي تستخدمها “مارلو”٬ والتي -حتى لا نحرق الفيلم- لها دور أكبر من كونها مربية ليلية تساعد “مارلو”.

عن الأمهات اللاتي يشبهن “مارلو”

قضيت الأسبوعين الأخيرين واقفة على قدمَي حاملة طفلي بين ذراعي لأنه كان مريضًا جدًا٬ وفي الأوقات التي كان زوجي يبدل معي الأدوار ويعتني به كنت أقضي وقتي في الخوف والبكاء٬ خرجت من هذين الأسبوعين بكتفين متألمتين وذراعين تعانيان من الشد العضلي وكعبين ينبضان بالألم.

 

قبل سنوات٬ كانت كتفاي تؤلماني من حمل حقيبة ظهر ثقيلة في نزهة٬ وكانت قدماي تؤلماني من كثرة المشي مع صديقتي أثرثر حول كل شيء٬ وكانت قدماي تصابان بالشد العضلي لأنني أتسلق وزوجي جبلاً في أسوان لنأخذ صورة عند قبة الهوى.

 

أنا أعرف “مارلو”٬ وأعرف “تالي”٬ أعرف كيف يمكن أن أكون حرة جدًا٬ وأعرف كم زاد وزن واجباتي بعد أن أصبحت أمًا، أعرف أنني لا أصلح سوى أن أكون قوية جدًا، مثل “مارلو” ومثل أمهات كثيرات لا يصدعن الأمهات الأخريات ببغضهن للمسؤوليات وثقلها على كواهلهن. كانت “مارلو” قوية، وكانت تحتاج “تالي”، وأنا أيضًا مثل “مارلو”، وأعرف “تالي” خاصتي، وسوف أستدعيها لو استدعى الأمر.

القويات هن الأمهات٬ تعب يضيء ولا يحترق.

 

 

 

المقالة السابقةأسئلة وأجوبة عن تجربة 1: الفرح ولا السفر؟
المقالة القادمةاعرف جيدًا مَن طفلك وما مطالبه
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا