“فتاة المصنع”.. فيلم التفاصيل الصغيرة

1219

 

مي فتحي

 

 

منذ فيلم “في شقة مصر الجديدة” وأنا ممتنة لسينما خان، بالرغم من أنني لم أشاهد قبله سوى “بنات وسط البلد”، فقد أدركت أنني سأنتظر الفيلم التالي بكل اللهفة.

أتذكر أن أحد الأصدقاء كان منبهرًا بالفيلم الإيراني “أطفال الجنة”، لأنه رأى العشوائيات والمساكن الشعبية دون إسفاف أو محاولات مضنية، لإخراج كل ما هو بشع فقط في هذه المناطق، كما يحدث في أفلام بعض المخرجين المصريين.
حسنًا يا صديقي.. أعتقد أنك ستجد ضالتك مرة أخرى في فيلم خان هذا.

 

القصة بسيطة و مُكررة.. فتاة تُتهم في شرفها.

“هيام” تعمل في مصنع ملابس، فتاة أكملت الواحدة والعشرين لتوّها، تتفتح مشاعرها على أفلام سعاد حسني وأغانيها، وتجد الباشمهندس صلاح أمامها، فتوجّه ناحيته كل ما اختزنته من مشاعر.
بعد محاولات مُضنية منها يتقاربان، وبعد قُبلة مسروقة بينهما تقع المُشكلة.
تتهم “هيام” في شرفها، وتتناقل زميلاتها الخبر، يتهرب منها الباشمهندس، وتتكاثر الأقاويل عن علاقتهما.

ألم أقل لكم إنها قصة مُكررة؟

القصة مُكررة.. لكن التفاصيل مُدهشة
هذه الحكاية المستهلكة والمُكررة في الظاهر تحمل في طياتها الكثير من التفاصيل التي أراد خان تمريرها لنا، وهذه التفاصيل لا تأخذ أكثر من مساحة مشهد أو مشهدين.

مشهد:
خمس أو ست فتيات على أحد الأسطح تدور أحاديثهن عن الحب والزواج، لأنه ربما الحلم الوحيد الذي لا يجعلهن يقلقن من كيفية تحقيقه ماديًا.. ولو مؤقتًا.
تقول “هيام”: “أمي بقى بتقول كتر الزغاريط يعلم الفرح”.. فيلجأن جميعهن إلى الزغاريد سهلة التنفيذ.

وفي جملة سريعة وخاطفة يسلط الضوء على فتيات المترو البائعات، واللاتي ربما ننظر إليهن ببعض الضيق في كثير من الأحيان، لكن بجمل خاطفة في الفيلم نعلم أن هناك قصصًا غير محكية عديدة، وأننا مهما ادّعينا، لا نعلم الكثير.

مشهد:

في طريقهن إلى العين السخنة نشاهد انعكاس البيوت الفارغة على زجاج الشباك الذي تطل منه “هيام”، وتقول لصديقتها: “شايفة العماير؟”.. بنبرة تحمل بعض الحسرة وبعض الحلم أيضًا.
مشهد لا يتعدى خمس ثواني وجملة من كلمتين تنبهنا سريعًا أن لا شيء تغيّر، وأنه ربما من قال يومًا إن مصر تجنبت ثورة الجياع يجب عليه أن يفكر مرة أخرى.

مشهد:

في إشارة إلى المقولة الخالدة “أقصر طريق لقلب الرجل معدته”، تسابقت الفتيات لكي يُطعمن الباشمهندس ما حضّرنه لأجل الرحلة.
ولكن “هيام” وحدها تمتعت بالصبر والمثابرة الكافيين لتدمج نفسها في عائلته، حتى مع معاملة الأم الجافة.
في هذه المشاهد ترتسم أيضًا ملامح شخصية “هيام” بوضوح كفتاة جريئة وقوية ومستعدة لتحمل الكثير في سبيل فكرة الحب التي تحتلها كليًا.
ظهرت جرأتها أيضًا حينما ذهبت إلى بيت الباشمهندس لتعرف منه لماذا يتهرب منها. ليست كل الفتيات قادرات على هذة الخطوة.

مشهد:
تدس أم الباشمهندس 20 جنيهًا في يد “هيام” وتخبرها ضمنيًا ألا تعود إلى البيت. تسير “هيام” على طرف الكادر بجوار سور مرتفع ويمر بجوارها المترو مسرعًا، وبينما يظهر جرافيتي لسعاد حسني مكتوب تحته “البنت زي الولد” يبدو هذا مثيرًا للسخرية، ونحن نرى البطلة مكسورة القلب تسير في حيز ضيق للغاية، لا يترك لها أي مجال (السور) والحياة تمر بجوارها مسرعة دون انتظار كالعادة (المترو).

مشهد:
تركض “هيام” إلى جروبي لمقابلة الباشمهندس بعد الكثير من البعد والجفاء، وتركض مبتعدة عنه في لقطة لاحقة بعدما وجّه إليها الإهانة تلو الأخرى.
وما بين اللقطتين يتخلل في الخلفية صوت مظاهرات ما تهتف لشيء ما، ويتحول الهتاف إلى “صوت المرأة مش عورة”، ربما فقط نُصرة لـ”هيام” في هذا الموقف.

مشهد:
لا تتحمل “هيام” نبذ حبيبها لها فتمرض بشدة، ثم تبدأ الإشاعات في الانتشار بين زميلاتها، وما بينهما تتركز الكاميرا في مشهدين خاطفين على فتاة بعينها صامتة أغلب الوقت، ولكننا سنعلم من خلالهما أنها هي صاحبة اختبار الحمل الذي اتُهمت فيه “هيام”، وسنتأكد مرة أخرى من أننا معلوماتنا محدودة وأن القصص التي لم تُحكى كثيرة، وأن الحياة لا تدور حولنا نحن فقط.

سيترك لنا خان بهاتين اللقطتين الحرية، لتخيل حكاية تلك الفتاة ونسجها كما يتفق لنا.

مشهد :
يعلم الأقارب بالفضيحة، الخال، والجيران.. أما الجدة فتُثبّت رأس “هيام” تحت قدمها الثقيلة وتقص لها شعرها، في إشارة إلى أهمية شعر الفتاة وما يمثله لها، وأن فقدانه يعد كسرًا لها ولشعورها بالأنوثة.

مشهد:

تنهال الأم (سلوى خطاب) على “هيام” بالضرب واللكم عندما تعلم بالإشاعات المنتشرة حولها، ثم ترفع السكين مدافعة عنها في وجه أخوالها الذين جاؤوا محاولين حفظ شرف العيلة بطريقة ما، وفي مشهد ثالث تذهب إلى الجدة لتستعيد شعر ابنتها وما فقدته معه من عزة نفس.
في النهاية لا يوجد من يفهم النساء إلا النساء، ولا يوجد من يستطيع أن يدافع عن البنت كما ستفعل الأم.

مشهد:
يستخدم خان الرقص مرة أخرى ليعبّر به عن كل ما لا يمكن قوله بالكلام المباشر. فكما استخدمه من قبل في رقص عايدة رياض المليء باللطف والحرية و الجمال، استخدمه أيضًا في رقص ياسمين رئيس ليعطيها حقًا في الاحتفال بالانتصار وبالحياة وبجمالها أيضًا.

على الهامش:
– سيتكلم الجميع عن موهبة ياسمين رئيس في هذا الفيلم، لكني أريد أن أتكلم عن جمالها الفريد ومناسبته أيضًا لهذا الدور.
– سلوى خطاب مبدعة جدًا في أدوار الأم البسيطة المساندة لابنتها بطريقتها الخاصة. ملامح الدور شبيهة بدورها في مسلسل “نيران صديقة”، لكن هذا لا ينفي اتقانها للدور بكل براعة.
– سلوى محمد كانت مقنعة أيضًا في دورها.
– حتى محمد خان لم يستطع أن يخرج أي جديد من هاني عادل ممكن يجعلني أتأكد من أنه لا يصلح لمهنة التمثيل بأي شكل.
– استخدام أغاني سعاد حسني كخلفية موسيقية للفيلم كان غريبًا عليّ في البداية، لكنه أضفى حميمية كبيرة على الفيلم، وجعلني أفكر في أي الأغاني ستكون مناسبة للموقف التالي.
– ينتصر محمد خان للمرأة بطريقته الخاصة، وأنا ممتنة له في هذا الأمر.

فيلم “فتاة المصنع” هو خطوة أخرى نحو سينما مصرية مميزة وثرية.. وأنا أعد محظوظة لأنني عاصرته واستمتعت به.

 

 

 

 

المقالة السابقةالباتيتا
المقالة القادمةفي الليل يرقصن
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا