عش العصفورة غير صالح لسكنى البشر

753

“لقمة صغيورة تشبعنا، عش العصفورة يقضينا”.

كلمات تغنى بها فريد الأطرش وهند رستم منذ عشرات الأعوام في فيلم “الخروج من الجنة”، والتي ترسخت في ذهن عشرات الفتيات، لتبني عالمًا رومانسيًا حالمًا، يستطيع أن يحيا فيه الحبيبان بمعزل عن العالم، لا يحتاجان من الطعام إلا أقل القليل، ويصبح عش العصفور الصغير سكنى لهما.

 

نسيت الفتيات أن حب بطليّ الفيلم لم ينجح لعدة أسباب، منها عدم التكافؤ في الشخصية بين “عنان” المرأة الطموحة التي ترغب في زوج يماثلها في قوة الشخصية والعزم، و”مختار” الموهوب المستعد لإهمال فنه حتى ينغمس في الحب.

 

تذكرت اليوم هذه الأغنية خلال مشاهدتي فيلم آخر هو “Blue Valentine” والذي يحكي عن زوجين آخرين عاشا ذات الحلم وحطمته الحياة، وأُثبتا مرة أخرى أنه حتى يستمر الحب يحتاج العديد من المتطلبات الأخرى أهم من صدق العواطف.

 

تدور أحداث الفيلم حول الشاب الوسيم “دين” الذي يعمل بمهن متواضعة ليكسب رزقه، ويقابل في أحد الأيام فتاة جميلة هي “سندي” التي تعد نفسها لدراسة الطب، كلاهما كان متهيئًا للوقوع في الحب، هو وحيد وهي خارجة للتو من علاقة مسيئة، وبالفعل يدخلان علاقة حب شغوفة، تنتهي بحمل “سندى”.

 

تصبح الخيارات أمام الحبيبين محدودة، التخلص من الجنين أو الاحتفاظ به، وفي لحظة عاطفية يعرض “دين” على حبيبته الزواج وأن ينشئا عائلة معًا، وتوافق، ليعقدا قرانهما وتنهمر دموع الفرح من أعينهما، مع نظرة متفائلة لحياتهما القادمة.

 

تنتقل بعد ذلك الأحداث عدة سنوات للأمام، لنقابل العائلة الصغيرة التي كوّنها الشابان، “دين” وقد فقد وسامته، يضطر لاحتساء الخمر صباحًا حتى يستطيع القيام بأعماله المتواضعة القاتلة لموهبته وروحه، و”سندي” التي تخلّت عن حلم الطب لتكتفي بالتمريض، وتطل من عينيها نظرة الحلم الذي قُتل في المهد، تشعر أنها وقعت في فخ لا فكاك منه، وبينهما طفلة صغيرة لا تعلم شيئًا عن كل ما يدور حولها، وأسأل نفسي ماذا حدث خلال هذه السنوات لتحدث لهما كل هذه التغيرات؟ حادثة؟ خيانة؟ أزمة؟

 

في الحقيقة لا شيء مما سبق حدث، إنما هي الأيام، التي حفرت الأخاديد في وجه ونفس كل منهما، المسؤوليات التي حملاها قبل الأوان، والخطوة التي قاما بها دون النظر لنتائجها، كل يوم مر عليهما، أخذ شيئًا من نفسيهما، اضطر “دين” أن يعمل في ذات الأعمال دون أمل في التطور أو إكمال دراسته أو التفرغ لتنمية مواهبه المتعددة، لم يعد يحتمل الاستيقاظ كل يوم، فأصبح يُغيّب نفسه بالخمر، بينما فقدت “سندي” كل ما حلمت به من قبل، وقام عقلها الباطن بتوجيه أصابع الاتهام لزوجها ليقف بينهما حائل كبير بلا أمل في الزوال، فكلما اقترب منها زوجها خطوة ابتعدت عنه أميالاً.

 

ما جعل علاقة جيدة محتملة بين الشابين تتحول إلى زيجة فاشلة هو تعويلهما على الحب وحده فقط، لم يضعا في عين الاعتبار أن الزواج به الكثير من المسؤوليات والأولويات أهم من الحب، التكافؤ بين الشخصين، الإمكانيات المادية الكافية لإعالة أسرة، التفاهم والأحلام المشتركة.

 

“دين” و”سندي” ظلما حبهما بتحميله فوق طاقته، وللأسف الكثير من العلاقات تفعل ذلك، يقتلان الحب في المهد بالاعتقاد أنه كالعنقاء، كائن أسطوري يتحول لرماد ثم يحيا من جديد، لا يعلمان أنه كعصفور صغير إن لم يتم العناية به وتغذيته بصورة سليمة، سيكون الموت هو مصيره المحتوم.

 

لا تحدثني عن الحب الذي سينقذ زيجة تعاني من مشكلات مادية جسيمة، فالحب لن يطعم الصغار الجائعين أو يستر أجسادهم، لا تخبرني أن الحب يعني كل شيء عندما تختارين زوجًا لا يوجد بينكما تكافؤ تعانين طيلة الوقت من عُقَد نقصِه التي يصبّها عليكِ، ولا تختر باسم الحب زوجة لا تفهم مسؤوليات الزواج ولا معنى الأسرة وتعتقد أن بقاءها جميلة في عينيك هو كل ما سيهمك كزوج في المستقبل.

 

علاقة طويلة الأمد مثل الزواج، يحيا تحت ظلها الإنسان أغلب سنين حياته، تحتاج لإعداد كافٍ قبلها، لا أعني بذلك شراء الأثاث وتجهيز المنزل، بل إعداد نفسي ومادي، أن يعرف كل طرف ما هي واجباته ومسؤولياته وحقوقه في ظل هذا الكيان الجديد، أن يسأل نفسه هل هو قادر بالفعل على أداء ما ستطلبه منه وظيفته الجديدة كزوج أو زوجة؟ هل يفهم أن حياته ستتغير 180 درجة بعد ذلك؟ والأهم.. هل سيتقبل ذلك بصدر رحب دون إلقاء اللوم على الطرف الآخر؟

 

فيلم “الخروج من الجنة” الذي تم عرضه عام 1967 أخبرنا أن الحب وحده لا يكفي لإقامة زيجة ناجحة، لكن -للأسف- كثيرًا منا ينسى الرسالة النهائية للفيلم، ولا نضع نصب أعيننا سوى الأغنية الخفيفة التي تمنحنا أملاً كاذبًا.

 

 

 

المقالة السابقةهو وهي في بيت العيلة
المقالة القادمةالق نظرة من نافذة الطائرة، هذا هو شكل العالم من تلك النافذه
نون
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا