تابعنا مسلسل “الوصية” ونجح فريق العمل في إضحاكنا بشدة في إطار كوميدي غير مبتذل، وفَّره -على ما أعتقد- نوع المهمة الموكلة إليهم، والتي تحتمل تكرارية إلى حد كبير، ولكنها تكرارية محببة للقلب مليئة بالتعقيدات المضحكة، لعبها صناع العمل بذكاء كبير يدفع الملل عن المشاهدين.
فبينما تدور الحلقات في نفس الخطوات التي يخطوها كل من بطلي العمل “إبو” و”سمسم” من مقابلة “دادة عارفة” ومحاولة استمالة قلب “شاهيطاز العلا” لتؤمن بذكاء خطواتهما وتعززها بالأموال اللازمة لتغطية تحايلاتهم على القوانين وما إلى ذلك لتيسير ما يمكن تيسيره، فإني أرى ذكاءً في تناول حتى هذه الخطوات المكررة، لما يصاحبها من تطور لطيف ومناسب لكل من هذه الشخصيات الأساسية بأركان قصص اليتامى المختلفة، بما يدرأ عني كمشاهد دوامة الملل النابع من التكرار.
كان هذا عن طريق انتهاج الطريقة الأظرف في خلق علاقات أكثر ترابطًا بين الشخصيات بعضها وبعض، وبما أن الإطار كوميدي فمن الطبيعي أن تتكون علاقات حب لطيفة وخفيفة تتماشى مع تطور الشخصيات ذاتها.
وسط كل هذه الدراما المتشابكة تظهر مجموعة من الشخصيات التي قد تبدو غير مؤثرة بالصميم في كيان العمل، ولكنها عامل مساعد مُحفِّز جدًا لقوام العملية الإبداعية بالكامل.. أحب أن أركز هنا على شخصية “ضياء”.
“ضياء” هو الموظف الموكل بشركة بطل العمل “إبو” لصنع الشاي والقهوة للموظفين، وهو الشخص الذي ليس له ولا حتى قيد أنملة حظ من اسمه كما يقولون، فهو عكس كونه مضيئًا تمامًا، فمن الطبيعي أن تراه يتنقل بين موظفي الشركة لبث أفكاره السوداوية الخاصة بسلاسة ودون “تويستات” درامية لتضمن ظهوره أو توقعه على الأقل، هو فقط يظهر بكل وأي وقت، ويصبح ظهوره طاغيًا على المشهد، رغم كلامه الثقيل على القلب، والذي يزفه إلينا على نواح الناي الحزين، إلا أن ظهوره دومًا ما كان مُرحَّبًا به.
“ضياء” هو المادة الخام غير المُعدَّلة للجانب المظلم لشخصياتنا، هو الدراما كوين الأول والأوحد على مسرح جانبنا المظلم، مر بالكثير وقرر أن لا يكتفي بالاكتئاب، ولعن الدنيا داخليًا ولكن قرر أن يُصدِّر هذا للخارج بسلاسة وحكمة، فربما يستفاد الآخرون ويتوصلون للمعنى الحقيقي للحياة من وجهة نظره كونها سوداء وفانية!
“ضياء” يقبع بعقل كل منا بأحجام مختلفة، قد يكون كصوت أنثوي أو ذكوري على حسب نوع النصيحة السوداوية المخيفة التي ستُزف إلينا في بث حي إلى فراغ عقولنا، وبالتأكيد ستتسبب في تكبيل قدمينا بكم كبير من المخاوف من القادم والحياة والظروف، وتوقُّع للسيناريو الأسوأ، وليس الأسوأ فقط، ولكن الأسوأ على الإطلاق، مما سينتج عنه بالتأكيد وقوفك حيث أنت خائفًا ومتوجسًا ومشككًا بكل الخطوات ومدى جديتها، وإن كان الوقت الحالي هو الوقت المثالي أو لا. “ضياء” هو الصورة التي نشدد مراقبتنا لذاتنا حتى لا نتحول إليها في غفلة من الزمن الغرور الفاني (مقبتسة من لسان ضياء).
لطالما نجحت هذه الصيغة في صناعة كوميديا رشيقة، بأن تجعل البطل موحَّد اللون، فتسحب كل نِسب الألوان الأخرى منه وتجعله مشبعًا بحالة محددة واحدة وواضحة تطغى على البقية. أعتقد أننا في حياتنا اليومية عبارة عن خليط من “إبو” الأناني المُعتد بنفسه والمتساهل بحق الآخرين، و”سمسم” المخلص إلى ما لا نهاية، والضحية غير الدراماتيكية أمام الشرير “إبو”، و”ضياء” خلاصة تجاربنا السيئة ومخاوفنا البشعة، والوحش الراقد في نهاية الممر المضيء.. الممر المضيء.
نعم أنا نطقتها “ممر مضيء”، ألم أقل إن ضياء بداخلنا جميعًا بأحجام مختلفة ينتظر المساحة الكافية فقط ليخرج ويسيطر، ثم ينتهي العالم بسلاسة بالغة.
مؤخرًا انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي صورة من مسلسلي المفضل “homer simpson”، حيث كان المشهد الأساسي يتضمن البطل “Homer” يمشى في الشارع رافعًا لافتة كتب عليها بالإنجليزية “النهاية قريبة”، وقد وضعوا وجه “ضياء” بدلاً منه لكونه الأقرب للتعبير عن هذه الفكرة. بالضبط هذا هو “ضياء” الذي نجح في التأثير سلبيًا حتى على طبيب الشركة النفسي الموكل لحل مشكلات الموظفين النفسية، وتركه بقبضته القاضية متكومًا على الشيزلونج مرتعشًا في مواجهة المجهول.
أعتقد أنها قد تكون وصية بالفعل يوصينا بها “ضياء” بشكل غير مباشر، أن لا ننسى جانبنا المظلم حتى لا يتحوَّل إلى وحش يلتهمنا عن بكرة أبينا، بصيغة “لو استسلمت لأحزانك وللدراما كوين اللي جواك هتتحول لعمو ضياء الأمور اللي هناك ده.. وإنت حر بقى”.