هناك العديد من الطرق التي نستخدمها للتعامل مع أحزاننا، فمن الممكن أن نتجاهلها ونعتبرها سحابة صيف نأمل أن تكمل طريقها دون أن تترك علينا الكثير من الندوب، أو نغوص في الحزن حتى نصل للقاع ونحاول بعد ذلك الارتفاع مرة أخرى، سواء قدرنا على ذلك أو لم نقدر، البعض يتجهون إلى الأطباء النفسيون وهم قلة، والبعض الآخر يبحثون عن ملاذ في أصدقاء، أو طعام، أو مخدرات، ولكن ماذا عن الكتابة؟
الكتابة تأتي للكثيرين على قمة الأدوات التي يتعاملون بها مع أحزانهم، فهي فعل حميمي بين الشخص ونفسه، لا يشاركه فيه غير القلم والورقة أو حاسوبه، يستطيع أن يفضي بكل مشاعره دون خوف من حكم شخص آخر عليه، أن يكتب ويشعر بالكلمات تحنو على جراحة.
وعلى مر الزمان استخدم عدد كبير من الكتاب أقلامهم في التعبير عن آلامهم ومحاولة الخروج من أحزانهم، سنتكلم هنا على بعض من هذه الأمثلة.
يوسف السباعي:
أعتاد الكاتب يوسف السباعي استخدام مشاهد من حياته في كتابة رواياته، وهي حيلة أدبية شهيرة، ولكن في الكثير من الأحيان استخدم السباعي أدبه للتفريغ عن جزء من كربه وحزنه، فالكاتب الذي لم نر له صورة غير مبتسم كانت حياته مليئة بالفقد والحزن، ولطبيعة الفنان الحساسة تركت تلك الحوادث ندوب في قلبه.
منها وفاة والده المفاجئة، فالرجل الذي صال وجال في الدنيا، وكتب وترجم ونشر، وجمعت بينه وبين ابنه الحساس علاقة وثيقة مختلفة عن أخويه، في يوم من الأيام عاد إلى منزله مريضا للغاية، ثم دخل في غيبوبة غير معلومة السبب لم يخرج منها للأبد، هذا المشهد حُفر في وجدان يوسف، ولم يستطع أن يتخفف منه، سوى عندما كتبه في رواية “نحن لا نزرع الشوك”، عندما فقد البطل حمدي والده بذات الطريقة والتفاصيل، ليبكي الكثير من القراء وأنا منهم من فرط الصدق في الكلمات.
وهناك رواية أخرى ليوسف السباعي أيضا، استعان فيها بحدث مؤلم من حياته، وهي “ليل له آخر”، ففي إحدى سنوات الستينيات، وقعت حادثة لابن الكاتب تسببت في كسر عظام ساقه وبقائه في الجبس لعام كام، وإجراء عدة عمليات صعبة، بقي خلالها الوالد المكلوم بجوار ابنه، يحاول أن يخفف عنه ويطمئنه، وقد نقل الكتاب تفاصيل تلك الأيام في الفصول الأولى من الرواية، عندما تعامل الأب مع عرج ابنته الناتج عن شلل الأطفال، والعمليات الجراحية القاسية التي تعرضت لها حتى تتخلص منه، وبقائه بجوار فراشها مطمئنا، وفي ذات الوقت خائفا وجلا يبتهل ليزيح الله الكرب عنها.
إحسان عبد القدوس:
الكاتب الشهير إحسان عبد القدوس الذي عشقت الفتيات رواياته المفعمة بالأحاسيس ووسامته، كان أيضا له العديد من الجراح في ماضيه عالجها من خلال الكتابة، فهو ابن الصحفية الشهيرة “روز اليوسف” والممثل “محمد عبد القدوس”، تلك الزيجة التي لم تستمر كثيرا، ولكن نتج عنها الطفل إحسان، الذي أخذه والده من أمه، ليبعده عن الأجواء التي تعيش بها روز الممثلة السابقة، ويعطيه لعائلته لتربيه في أجواء متشددة.
ربما لم يقل الطفل والشاب إحسان الكثير عما عاناه في هذه الفترة، ولكن نراه واضحا بجميع التفاصيل في روايته “أنا حرة”، حيث وضع مكانة البطلة التي تعاني العيش مع عمتها وزوجها المتشددين، وتثور على أفكارهما الرجعية طوال الوقت، وربما صدفة أو مزحة قدرية جعلت محمد عبد القدوس يمثل دور الأب في الفيلم، الذي تم اقتباسه من الرواية.
شارلوت برونتي:
الكاتبة الإنجليزية شارلوت برونتي، صاحبة أحد أعظم الروايات الكلاسيكية “جين إير”، كانت طفولتها حزينة وقاسية للغاية، وهي الابنة الوسطى لقس متشدد يعيش مع عائلته على أطراف الريف، في منطقة مستنقعات ذات طبيعة جافة، تثير الكوابيس وتحفز خيال الأطفال، وعندما يبعث بناته إلى المدرسة يختار واحدة فقيرة متشددة تتوفى بها أحد بناته.
طفولة شارلوت برونتي حفرت ندوبا لم تستطع التخلص منها بعد نضوجها وعملها كمدرسة ومربية، وعندما أمسكت القلم لتخط روايتها تسللت تلك الأحداث في الرواية، لنتعرف على الطفلة جين التي تذهب إلى ذات المدرسة القاسية، وتفقد أعز صديقاتها بذات الطريقة التي توفت بها أختها، في واحد من أكثر المشاهد الأدبية حزنا.
إيزابيل الليندي:
الكاتبة التشيلية المبدعة إيزابيل الليندي تعرضت لكثير من الحوادث الحزينة في حياتها، ولكنها امرأة قوية استطاعت في كل مرة أن تلملم شتات نفسها وتقيم ظهرها وتقف من جديد لتخوض الصراع مرة أخرى، ولكنها تقول في الجزء الثاني من مذكراتها “حصيلة الأيام” أن ذلك أكسبها الكثير من الندوب، وأصبحت منهكة للغاية تحتاج أن تترك سيفها لبعض الوقت وتنعم بالسلام.
هجر والد إيزابيل والدتها وأخوتها وهي طفلة صغيرة، واضطرت الأم التي أنجبت آخر أولادها منذ أيام أن تتولى المسئولية، وهي وحيدة في بلد غريب، وتجمع المال اللازم لسداد ديون زوجها الهارب، وترجع لبلدها امرأة مهجورة بثلاثة أطفال، مهزومة أمام والدها الذي رفض هذه الزيجة من الأساس، هذه الفترة القاسية التي عاشتها والدتها نقلتها إيزابيل في روايتها الأولى “بيت الأرواح”، وحتى الاسم الأوسط لوالدها الحقيقي تسلل من عقلها الباطن ليصبح اسم أحد الأبطال قبل أن تبدله بناء على رغبة والدتها.
الحادثة الثانية كانت في هجرة إيزابيل من بلدها تشيلي إلى فنزويلا بعد الانقلاب العسكري على عمها سلفادور الليندي، هربت إيزابيل وبدأت حياة جديدة مع عائلتها، مصطحبة معها حفنة من تراب تشيلي أملت أن تزرع فيه بذور نبات “لا تنسيني”، لكنها اكتشفت أن التربة ليست المسئولة عن النبات وحدها، ولكن كذلك الطقس والحرارة، فعرفت أن انتزاعها من بلدها كان للأبد، ويجب أن تبحث عن أرض جديدة لتثبت فيها جذورها، تلك التي وجدتها بعد ما يزيد عن العشر سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك كتبت كتاب “بلدي المخترع” لتعرض حنينها لتشيلي، التي تركتها رغما عنها، ولم تستطع زيارتها إلا بعد انتهاء الحكم الديكتاتوري، الذي استمر لثمانية عشر عاما، وعندما عادت اكتشفت أن جذورها أصبحت في مكان آخر.
أما الحادثة الأكثر إيلاما في تاريخها، كان فقدانها لابنتها “باولا” التي أصيبت بنوبة مرضية، أدت إلى دخولها إحدى المشافي في إسبانيا، حيث تعرضت لأخطاء طبية تسببت في دخولها غيبوبة لم تخرج منها إلا بوفاتها، عاشت إيزابيل عام من الحزن والألم بجوار ابنتها المريضة، بدأ بالأمل في شفائها، ثم ضياع هذا الأمل بالتدريج، ثم تهيئة أفضل وسائل المعيشة لها في منزلها بالولايات المتحدة حتى وفاتها بين أحضانها في مشهد مهيب حزين.
نقلت إيزابيل هذه القصة بحذافيرها في كتابها “باولا”، الذي تنقلت خلاله ما بين الأحداث التي عاشتها مع ابنتها المريضة، وبين ماضي عائلة إيزابيل منذ جدودها، والتي كان هدفها في البداية بقصها على ابنتها أن تذكرها بأجدادها البواسل، وتعينها على القيام من عثرتها، وعندما فقدت الأمل أصبحت هي من تستعين بهم لتؤنسها هذه الذكريات خلال أصعب لحظات حياتها في أثناء فقدها لابنتها بالتدريج أمام عيونها.
الكتابة في الأمثلة السابقة وأخرى كثيرة، كانت علاجا نفسيا، وطردا لأشباح الماضي، فعندما تتحول الأحداث الحزينة إلى كلمات على الورق تفقد بعضا من سلطانها على النفس، وتتخفف الروح منها قليلا، وقد تعطي بارقة أمل في المستقبل.