يخطئ من يظن أن فلسطين يعشش فيها الموت والخراب، فما خلقت فلسطين إلا للحب والحياة. كفلسطينية عشت طوال عمري وأنا أرى فلسطين حاضرة دائمًا وأبدًا في ميادين الإبداع مهما تعددت وتنوعت فنونه، حاضرة بأبنائها الخلاقين الموهوبين الذين ما انفكوا عن صنع بصمتهم الخاصة، البصمة الفلسطينية الحرة. كنت أود أن أمتلك ريشة فنان حتى أسجل حبي لوطني في كل لوحةٍ ورسم، لكني امتلكت قلمًا أستطيع به أن أحتفي بفناني وطني الأعزاء الذين حملوا فلسطين في دواخلهم، فخرجت تحلق في لوحاتهم بعيدًا عن السجن والسجان.
في هذا المقال أسجل حبي وإعجابي بفن الكاريكاتير، الفن الذي علمني كيف أضحك على الوجع، وكيف أجعل البسمة ضمادة تحمي الجراح من تلوث الكآبة. الفن الذي قدمنا للعالم بصورتنا الحقيقية كشعب محب للحياة، للضحك، وللألوان، وقام بإيصال أصواتنا للعالم بأسره بطريقةٍ متحضرة. الفن الذي يُحسن إيصال رسائلنا دون كلمات تُذكر، فقط بالصورة والضحك المر.
حنظلة الصغير الذي لا يفارقني
اسأل أي فلسطيني عن “حنظلة” سيخبرك بالتأكيد. اسأله منذ متى تعرفت إليه، غالبًا ستجد ملامح الحيرة بادية على وجهه. “حنظلة” الأيقونة الخالدة التي كان يوقع بها رسام الكاريكاتير الفلسطيني “ناجي العلي” تجاوزت كونها توقيعًا لرسامٍ أو أيقونة خالدة وأصبح “حنظلة” هوية تحدد فلسطينية المرء منا، حالها حال الكوفية الفلسطينية تمامًا. لست أدري متى عرفت “حنظلة” لكنه دائمًا موجود، يعطيني ظهره عاقدًا يديه خلف ظهره مشعرًا إياي أنه أكبر من السنوات العشرة التي يمتلكها، “حنظلة” لا يفارقني لأني اخترت أن يكون هو ومفتاح بيتي في ميدالية واحدة، حتى لا أنسى هذا الصغير الذي يعطي الجميع ظهره في انتظار انتصارٍ يصلب ظهره مجددًا ويفك عقدة يديه.
حينما يصبح جمع رسوم الكاريكاتير هواية
البعض اختار أن تكون هوايته جمع الطوابع، والبعض الآخر جمع العملات، أما أنا فاخترت أن أجمع الرسوم الكاريكاتيرية للفنانة “أمية جحا” كهواية، فدائمًا ما كانت الرسوم الكاريكاتيرية تحمل تواقيع الرجال، لذا لا عجب من دهشة مراهقة تشاهد الرسم الكاريكاتيري في الجريدة يحمل توقيع امرأة. لست أذكر أيًا من الأفكار التي انتابتني وقتها، لكن أستطيع أن أؤكد أني شعرت بالفخر فقصصت الرسم وأحضرت الغراء وقمت بلصق الرسم في دفترٍ صغير يرقد بجواري الآن وقد اصفرّت أوراقه. لست أذكر متى بدأت تلك الهواية تحديدًا، لكني أشاهد في دفتري الآن رسمًا كاريكاتيريًا للشهيد الأسير “محمد أبو هدوان” والذي استشهد عام 2004م، وهذا يعني أن هوايتي هذه بدأت قبل ذلك بفترة. في الدفتر هناك رسم يمثل الوحدة العربية، وعدة رسومات عن العراق، وواحد عن باكستان، وآخر عن لبنان، والبقية عن قضايا فلسطين السياسية والاجتماعية. كم أنتِ رائعة ومبدعة “أمية”! وكم أنا فخورةٌ بكِ!
المعين الذي لا ينضب
الفن هو طب النفوس، ود. علاء اللقطة لم يكتف بالطب التجميلي مهنةً، فاختار طب النفوس كذلك ليكون واحدًا من أشهر رسامي الكاريكاتير في فلسطين. معروف عن د. علاء غزارة أعماله، فلا يترك حدثًا -ليس على صعيد فلسطين فحسب بل على الصعيد العالمي أيضًا- إلا وسجله في رسم كاريكاتيري معبر. كنت اخترت أن أتحدث عن آخر رسمٍ شاهدته له، لكن ما إن بدأت الكتابة حتى باغتني رسم آخر يعود بي لحرب غزة عام 2014م والتي عشت أيامها المريرة كاملةً. الرسم يمثل غزة امرأة مكسورة القدم تستند إلى عكاز تمتزج دموعها بزغاريدها عند رؤيتها لولدها وقد عاد حاملاً على طرف بندقيته أسيرًا إسرائيليًا. الرسم يذكرني بواحدة من ليالي الحرب فرت فيها عمتي وبناتها لبيتنا بعد أن قُصف منزلها ودُمر، ورغم الخوف والحزن الذي كان يعتصر الجميع لكن الفرح والهتافات والزغاريد انفجرت عند سماع خبر أسر جندي إسرائيلي، كان الخبر انتصارًا صغيرًا أحسن د. علاء التعبير عنه حقًا.
في داخل كل فلسطيني “أبو العبد”
“أبو العبد” هو فلاح فلسطيني مثقل بهموم الوطن لكنه يُحسن التعبير عنها بالسخرية، ابتكره الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير الراحل “بهاء البخاري” ليكون بطل رسوماته المعبرة عن حال المواطن الفلسطيني تجاه الأحداث المحلية والعالمية. من الصعب أن أشاهد “أبو العبد” صاحب المزاج المتعكر، والسيجارة التي لا تفارق فمه ولا أبتسم، تتسع الابتسامة إن كانت “أم العبد” تطل من المشهد كذلك. أسرة “أبو العبد” أسرة أحبها.
زنزانة 28 التي أردت زيارتها
زنزانة 28 هي الزنزانة التي ضمت بين جنباتها رسام الكاريكاتير الفلسطيني “محمد سباعنة” ستة أشهرٍ، وهذه لا حاجة لي لزيارتها، لأني أعرف أنها لا تضم إلا بؤس السجن وظلم السجان ومرارة الوقوع ما بين يدي عدوٍ لا يرحم. زنزانة 28 التي أردت بشدة زيارتها هي المعرض الذي أقامه “سباعنة” في مركز “خليل السكاكيني” بمدينة رام الله عقب الإفراج عنه، لعرضِ أربعين رسم كاريكاتيري قام برسمها أثناء أسره بالاستعانة ببعض أقلام الحبر والدفاتر التي يتم تهريبها له في سجنه. لكن الاحتلال الذي قام بسجن “سباعنة” في زنزانة ضيقة، فرض علينا أن نسجن نحن معشر الغزاويين في غزة لتصبح الضفة الغريبة أحد أحلامنا المؤجلة على الدوام.
فن الكاريكاتير سيظل واحدًا من أكثر فنون الرسم المقربة إلى قلبي، فقد نجح في التعبير عن قضية وطني بأفضل طريقةٍ يتفاعل معها الجميع على اختلاف جنسياتهم ولغاتهم، فالبطولة في الكاريكاتير للصورة، ولطالما كانت الصورة خيرٌ من ألف كلمة، وهنا مكمن الإبداع.