نحن نتاج ماضينا، تلك الحكايات التي شَكَّلتنا واختزناها داخلنا، تجاربنا التي لم يعلم مَن حولنا عنها إلا القشور في حين بَقَيت آثارها عالقة بذاكرتنا وندباتها محفورة على جدران قلوبنا، لنعيش مُحَمَّلين بعشرات الأسرار التي نُخَبِّئها خلف أسوار مَنيعة تجعلنا مهما اجتهدنا وأصبحنا جزءًا من دوائر اجتماعية حميمة، نُخفي أكثر مما نُبطن.
تنهشنا الذكريات من وقتٍ لآخر فنتألم بصمت، لأن الآخرين لن يفهمون أبدًا ما يَعتَرِم بصدورنا، أو لأن أوان كَشف الحقائق قد وَلَّى وما عاد من مُتسَّع للحكي.
لكن.. ماذا لو أجبرتنا الحياة على التَعَرِّي من الأسرار وظهور الأشياء على حقيقتها؟ هل يُسامحنا الآخرون فيمنحونا فرصةً أخرى، أو أخيرة؟ هل نُسامح أنفسنا لأننا لم نكن صادقين تمامًا؟ والأهم: هل نُسامح نحن الآخرون إذا ما انقلبت الآية؟
كل تلك الأشياء وأكثر تلعب عليها ثيمة مسلسل “الرحلة”، إذ نشهد مجموعة من الأبطال تتقاطع خطوط مصائرهم، وتنزع عنهم الحياة عنوةً ورقة التوت التي يسترون بها أنفسهم، فيصبح لا مجال لديهم سوى للمواجهة وتَحَمُّل عواقب أفعالهم بالماضي.
“أسامة” و”رانيا” والوحوش اللي برَّة دول
“أسامة” رجل مُضطرب نفسيًا لأسباب تعود إلى طفولته، يقع بحب امرأة لفرط براءتها، فيتزوجها مُقررًا فَرض سياج من حولها يفصل بينها وبين العالم الخارجي، حيث كل الأشرار الكاذبين الخائنين، يفعل ذلك بوازعٍ من حُب وتَصَوُّر شخصي بأنه يملك الحقيقة المُطلَقَة.
فيَبني الجَنَّة (من منظوره) على أطلال روح زوجته، التي يقهرها حين يسجنها بهدف حمايتها، دون أن يمنحها حرية الاختيار ، لتظل أسيرته لسنوات، حتى تتحول هي الأخرى إلى محض شبح، قبل أن يمنحها القَدَر فُرصة ذهبية للهروب، فتنتهزها بالرغم من حقيقة أنها لم تَعد تخشى زوجها فحسب، بل العالم أجمع.
تهرب “رانيا” بطفتها نحو المجهول، بينما تتلفَّت خلفها طوال الوقت لأنها تعلم أن زوجها لن يتركها ترحل في سلام، وبالفعل يصل إليها “أسامة”، الذي يُعلن استعداده للخروج من شرنقته والعَيش وسط “الوحوش اللي برَّة دول” إذا كان ذلك هو السبيل لرجوع زوجته وطفلته له، فهل تمنحه رانيا فرصة أخرى؟ وإذا ما حَدَث ذلك هل يُسامح “أسامة” لأن “رانيا” رأت في جحيم العالم ملاذًا آمنًا أكثر من حضنه المزعوم؟
“كريمة” ومُستَودَع من الأسرار
“كريمة” شخصية كتومة، لا أحد يعلم حقيقة ما تشعر به، فعلى وجهها ترسم تعبيرات جامدة تجعلها غير مكشوفة ممن حولها، تُرى هل كانت هكذا طوال حياتها أم أنها تحوَّلت إلى تلك النسخة منها بعد أن عرَّضتها الحياة للعديد من التجارب السيئة؟
فهي مثلاً على سبيل التجارب العاطفية.. يكاد يكون لا أحد يعلم سبب انفصالها الحقيقي عن زوجها السابق، ومسألة وفاة طفلتها الأولى والأخيرة، وكيف أن ذلك جعلها تختار الوحدة رفيقًا، مُبتعدةً عن أي احتمال للحب، لأنها تعلم جيدًا أنها لن تستطيع منح شريكها الحياة المثالية التي سيرغب بها، فهل يغفر لها “مالك” هذا السر مثلما غفر لها أسرارها الأخرى؟
بينما على سبيل المرض.. أخفت “كريمة” عن أختها كونها بمرحلة متأخرة من سرطان الثدي، فعلت ذلك كي لا تُقلقها، أو رُبما لأنها ترفض أن ترى في عين أختها الصغيرة نظرات الشفقة والخوف من المجهول. ليبقى السر الأكبر الذي أخفته هو حقيقة كَون والدة شقيقتها ما زالت على قَيد الحياة، إذ أخبرتها بالماضي أنها تَوفَّت؛ أليس الموت أفضل من إخبار طفلة أن والدتها مسجونة بتهمة قتل والدها؟!
كَم من الأسرار التي نُخفيها خوفًا على الآخر وحُبًا فيه، لتمُر الأيام فننسى، ونُصدق نحن كذبتنا، قبل أن تضطرنا الحياة لمواجهة أسوأ كوابيسنا بأن يعرف الآخرون أننا خدعناهم، فهل تتجاوز “كارما” كل تلك الصدمات فتغفر؟
“كارما”.. “عمر”.. “ياسمين” بين الحُب والفقد وصداقة العمر المزعومة
“كارما” و”ياسمين” صديقتان منذ الصغر، مرَّا بكل شيء معًا، وكانتا تُراهنان على استمرار علاقتهما حتى الأبد، لم تكن أي واحدة منهما تعلم ما يُخبئه القدر، فكيف يُمكن تَصَوُّر أن يقع خطيب الثانية بحب الأولى، وأن تميل هي إليه أيضًا؟
نعم هي لم تتماد معه، لكنها أيضًا لم تُصارح صديقتها بالحقيقة، والأهم أنها لم تُغلق الباب بالكامل أمام ذلك الخَطيب، بل تركته مواربًا، ليس أملاً في الفوز به، ولكن لأن تَمَسُّكه بها وإصراره على الوصول لقلبها ولو على أنقاض بيت وحياة وَعَد بهما أخرى، كان مُرضيًا لغرورها ويُشعرها بالرضا. لذا كانت صدمة شديدة حين علمت “ياسمين” بما فعلته معها “كارما”، وعلى قَدر ما لم تأسف على حبيب خائن، أُسقِط بقلبها أن تخذلها صديقة العمر، فهل يُمكن أن يَطيب جرح كهذا؟
“آدم” و”سارة”ولعنة الذنب الذي لا يُغتَفَر
“آدم” و”جميلة” زوجان ببداية عهدهما بالحياة، يرسمان لأنفسهما طريقًا مفروشًا بالحب والاحتمالات الطيبة، لكن فجأة كل شيء يَتَبَدَّد حين يصل لـ”آدم” يوم زفافه مظروفًا يحتوي صورًا للعروس بأحضان رجل آخر! هنا تثور رجولة العريس وتُوجعه كرامته، وعلى عكس ما هو مُتَوقَّع، فهو لا يرحل، بل يتُمم الزيجة عاقدًا العزم على تطليق زوجته باليوم التالي.
وحين يواجه بعدها زوجته تُصر هي على براءتها وأن تلك الصور تعكس زاويةً خادعةً للأمور، وعلى ذلك يتمسَّك هو برأيه رافضًا الاستماع لأي تفسيرات مُتهمًا إياها بالكذب في المُطلَق. وبين محاولات “سارة” المُستميته لإيصال الحقيقة لـ”آدم”، وإغلاقه لأبواب قلبه تجاهها بإحكام تنقضي الأيام من سيئ إلى أسوأ.
مع مرور الوقت يكتشف “آدم” صِدق “سارة” وأنه تسرَّع بإلقاء أحكامه، وإن ظل غير قادر على مسامحتها، فباب الشَك فُتح بينهما وصار الحُب وحده لا يكفي. من جهة لا يكفي “آدم” للقدرة على النسيان وفَتح صفحة جديدة، ومن أخرى لا يكفي زوجته لتَقَبُّل الوضع على ما هو عليه. ومع التمادي باجترار الذكريات والتأنيب بمناسبة أو بدون، تصبح الزوجة هي الأخرى ضحية لقسوة قلب الزوج وافتراضه الدائم للأسوأ، فهل يُمكن لكليهما مسامحة الآخر، أم أن نهاية حكايتهما كُتبت قبل حتى أن تُبدأ؟
“كلنا بنغلط، وكلنا لازم نسامح” وفي قولٍ آخر “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”.. لكننا لسنا ملائكة، بالإضافة لأن بعض الأخطاء حتى وإن ظللنا نُحب من ارتكبوها فإننا أبدًا لا ننساها إذ يظل جرحها غائرًا بقلوبنا ، يُذكِّرنا كم كُنَّا سُذَّج، الأمر الذي يجعل الخط الفاصل بين قُدرتنا على العفو واختيارنا للرحيل لا يُدرَك إلا بالتجربة.. فهل ننجو منها؟
الوحوش اللي برة دول