“الأوفريندا”..حكايات الحب والحياة والموت

654

 

كتبت-إنجى الطوخى:

رغم أن الفكرة الأساسية للفيلم الكارتوني الجميل “كوكو” تدور حول شغف الطفل “ميغيل” بالموسيقى ورفض عائلته للأمر، فإن الفيلم تضمن الكثير من الرسائل العاطفية الخفية، كان أكثرها دفئًا هو أن وفاة أحبائنا لا تعني نسيانهم أو مغادرتهم لقلوبنا، وأن جزءًا من وفائنا لهم إحياء ذكراهم بالحديث عنهم باستمرار لمن حولنا، أو الإشارة إلى أثرهم الطيب في الحياة، فتبقى سيرتهم في القلوب حية دومًا تنتقل من جيل إلى جيل، وبدا ذلك جليًا في تقديس جدة “ميغيل” لـ”الأوفريندا” طاولة صور أفراد العائلة المتوفين في المكسيك، التي تراها السبيل الوحيد للالتقاء بأفراد عائلتها بعد الممات.

 

أثار الفيلم الشجون، فخلال هذا العام كان هناك الكثير من الأحباء ممن أعلنت الحياة ميعاد رحيلهم عن دنيانا، وليس الأحباء فقط على المستوى الشخصي، بل على المستوى العام أشخاص تركوا بصماتهم في الروح بارزة واضحة، وصنعوا فينا ذلك الأثر المضيء الذي لا يزول بمرور الزمن بل يزداد سطوعًا، فكان لا بد في نهاية العام من وجود “أوفريندا” عربية لهم في خزانتي، أتذكرهم من خلالها وأعلن عن تقديري وحبي لهم، عسى أن يرد ذلك بعض ما فعلوه لنا.

 

ريم البنا.. وقاتِلوا من أجل ساعة فرح أخرى

كانت الصديقة التي أستمد منها الأمل في مقاومة قسوة الحياة وتقلباتها، فعندما كان تثقل روحي بالأزمات ويأبى قلبي الابتسام، أحدث نفسي “هيا بنا إلى ريم”، هكذا أسرع بفتح شراعة نافذتي لأطل على بيتها الأزرق “الفسيبوكي” الذي يختصر المسافات بيننا، أراها وهي تقاوم المرض اللعين وكيف تبتسم في وجهه بلا خوف أو قلق، أتابعها وهي تبث معاني الحياة والجمال في صورها الزاهية، وتكتب فيزوي المرض ضعيفًا خائرًا، فأشعر بمدى ضآلة حزني، وأنه لا بد لي مزيد من الجَلَد والصبر أمام العالم، وأن أكافح من أجل أحلامي.

 

كانت “ريم” بلورتي السحرية التي تعلمني أن للحياة أبعادًا أخرى، فمثلما يوجد الألم والبكاء فهناك عدم الاستسلام الذي يتمثل في تلك المرأة الفلسطينية التي تربي أطفالها وحدها وهي تقاوم المرض، ولا تقبل الخنوع لضرباته الموجعة لجسدها، فتتكحل وترسم الحناء ناثرة في وجوهنا ذرات من الجمال العربي الأصيل، وفوق كل هذا تغني، ولكنه ليس كأي غناء، بل هو سلاح ليس فقط لإنقاذ روحها، بل لحماية تراث بلدها من الضياع.

اقرئي أيضًا: الكوفية الفلسطنية وتاريخها.. ما هي قصة الكوفية الفلسطينية

مكاوي سعيد.. حكواتي القاهرة

لا يبدو كاتبًا عاديًا ولكنه لم يسع إلا أن يكون كذلك، يجلس في مقهاه الشهير بوسط البلد بين الزبائن ليلقي كلماته الأدبية التي تمتلئ بالحكمة والإبداع، فتغرق في أصالتها، عرفته من كتابه “مقتنيات وسط البلد” ومقالاته في جريدة “المصري اليوم” التي تضفي على القاهرة سحرًا فوق سحرها الأصلي، ولكني عرفته أكثر من حكايات أصدقائي الذي كان عونًا لهم في تلمس بداية الطريق في عالم الأدب، ولم يبخل عليهم بالنصيحة أو التشجيع للحظة. أحببته وتمنيت أن يكون لي نفس الأثر في نفوس من حوله، فشعبيته لم تصنعها سلطة أو جاه بل صنعها الناس.

رشيد طه.. قولوا لمي متبكيش يا منفي

ذلك الجزائري الذي رافقني خلال أيام الحلم والثورة بأغانيه، كان عجيبًا، كيف تمنحني كلمات أغانيه -وإن بدا بعضها غير مفهوم بالنسبة لي- الحماس والانطلاق والرغبة في معانقة الحياة، وبل منحها قبلات لا تنتهي، هل هي أغنية “قولوا لمي متبكيش” أم “برا برا” أم أغنية “يا الرايح” التي رقصت علي أنغامها؟! لا يهم الآن، فقد كان رشيد طه هو دومًا الخلفية الموسيقية في حياتي خلال مناقشة أي قضية ثورية سياسية أو اجتماعية.

 

علمت بعد ذلك السبب، فهو أيضًا كان شخصية ثورية بعد هجرته إلى فرنسا مع أبويه، ومعاناته كعربي إفريقي في عالم غربي، فقرر أن يقدم ثورته الخاصة من خلال فنه، أي أغاني الراب الجزائرية، وإعادة أغاني التراث الجزائري ليعرفها العالم الغربي، فظلت رائحة ثورته سارية في ألحانه وكلماته حتى تسللت إلى القاهرة، لتعانقني خلال أيام الثورة وتواسيني أيضًا إن تخلى أحد أحلامي عني، بأنني قوية بما يكفي لتحقيقه حتى لو استلزم الأمر ثورة.

حمدي قنديل.. قلم رصاص

الأستاذ الذي رأيت أنني فقدت جزءًا من ذاكرتي بوفاته، عرفته مبكرًا في طفولتي عندما لم أتجاوز الـ8 سنوات من خلال برنامجه “رئيس التحرير”، كان برنامج أبي المختار، يصدح صوته في أرجاء البيت على العشاء، فأشاهده منبهرة من قوته وعدم خوفه، من جرأته وعناده. ثم صار صديقًا حقيقيًا لي عندما جلست بجانبه أخبره بحلمي في مجال الإعلام، وهو يقدم لي النصائح ويعلن دعمه المعنوي والمادي لمشروع إعلامي لي ولأصدقائي -وإن لم يكتمل- فأصبح لقب أستاذ اسمًا على مسمى، فقد أفاض عليً بحر خبراته وعلمه دون حدود، وألهمني بقصة زواجه عن أهمية الشجاعة في الحب.

أحمد خالد توفيق.. العراب

صديقي الذي عرفته وأنا في العاشرة من عمري، كنت أقابله يوم الخميس من كل أسبوع، بعد أن تمنحني العائلة إفراجًا مؤقتًا من قيود المذاكرة، وعلى ناصية شارعنا حيث تلك المكتبة الصغيرة “المحندقة” كان ميعاد المقابلة، بعد أن أشتري كتابين من تأليفه بمصروف الأسبوع كله ثم أمررهما لأصدقائي بين كتب الدراسة، كأنها مخدرات. سلسلة “ما وراء الطبيعة”، “فانتازيا”، “روايات مصرية للجيب” ثم أخيرًا رواياته. وظلت الحال بيننا كذلك حتى قابلته في أحد ندواته التي لم يبخل فيها بالإجابة على أسئلتي الكثيرة بصبر وهدوء الأب. كل ما أعرفه أنني أدين له بالكثير، فقد كان سببًا مباشرًا في حبي للقراءة، وثقافة سينمائية واسعة من خلال “أفلام الحافظة الزرقاء”.

***

في النهاية، شكل “الأوفريندا” في الحياة ليس ثابتًا، فقد تكون صورة لمن نحبهم نضعها في حافظة النقود، وقد تكون عملاً مهمًا صنعوه قبل مماتهم نخبر الناس عنه، وقد تكون مساعدة قدموها لنا نبتسم بامتنان إذا رأينا أثرها.

لكل منا ذكرياته الخاصة به لأشخاص لا ينساهم مهما طالت به الحياة، ولا يتمنى أن ينساهم الناس، وتلك هي ذكرياتي الخاصة بي لأشخاص قدموا لي الكثير، فكان لا بد من كلمات تعطي لهم نذرًا يسيرًا من عطائهم وتذُكر الناس بهم، لذا من فضلك لا تنسَ “الأوفريندا” الخاصة بك حتى لا تصبح ذكرى من تحبهم طي النسيان.

 

 

المقالة السابقةالجزء المضيء من الباب الموارب
المقالة القادمةما الخطأ في أن تكون عاديًا؟!
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا