معملش حاجة تستحق الذّكر.. غير إنه واقف لسة على رجليه
فلان شخص غير عادي، وفلانة شخصية استثنائية، هذا يتبعُ شغفه، وهذا يخرج عن المألوف، وآخرٌ يصنعُ المعجزات.
لكن ماذا عنّا نحن؟! نحنُ الأشخاص العاديون جدًا الذين لا يمتلكون أي قدراتٍ خارقة، أو مزايا استثنائية، أو مواهب غير عادية، أو أننا نمتلك ذلك كله لكننا اخترنا الحياة الهادئة العادية شديدة البساطة.
كيف يكون شعورك حين ينعتك شخصٌ ما أنّك “عادي جدًا”؟ كيف يُترجَم هذا في رأسك؟ على الأغلب معظمنا سيترجم الكلمة إلى عدة مرادفات ارتبطت بها بفعل عوامل عادية، مثل: ممل، سلبي، تقليدي، ماشي جنب الحيط، لا يعرف المغامرة… وقد تزداد المعاني قسوة مثل: فاشل، جبان، عديم الإنجاز، أو على الهامش.
أتى جيلنا في زمن الطفرات التكنولوجية والانفتاحية، صار العالم قرية صغيرة كما يقولون، صرت تعرف الأخبار في نفس ثانية حدوثها، وصرت تعرفُ الكثير عن الجميع، تعرف أن فلان تزوج، وهذا يحضّر الدكتوراه، وزميلة الدراسة صارت لاعبة أوليمبية، وصديق الطفولة يجوب العالم في رحلةٍ استكشافية، زميلك في العمل استقال فجأة وعرفت بعدها بشهور قليلة أنه أصبح يملك شركة خاصة وأنها تحقق نجاحًا ملموسًا في نفس المجال الذي تعملُ فيه موظفًا، حتى أنهُ طلب في بوست على فيسبوك مرشحين أقوياء للعمل في شركته الجديدة، في نفس موقعك الوظيفي. شعارُ الشركة ملفتٌ جدًا مثل: We are the Extraordinary أو we had a dream and we made it true.
تقرأ البوست وتشعر بالفشل وعدم الاستحقاق، وتنزلُ إلى عُمق حفرة لومِ الذات والنقمة على حياتك، والإحساس العارم بالدونية ونقص القدرات أمام الخارقين أمثالهم.
حينَ عرفتُ خبر حملي، كنت سعيدةً جدًا في الأسبوع الأول، والأسبوع الثاني، فريقٌ من المجتمع يرى أنني دخلت الآن في إحدى دوائر الإنجاز، أعرفُ في داخلي أنّ إنجاب الطفل ليس إنجازًا في حد ذاته، لكن تربيته والاعتناء به هو شيءٌ أشبه بنقلِ جبلٍ صغيرٍ من مكانه. تربية الأطفال تحتاجُ إلى قدراتٍ خارقة أحيانًا، خصوصًا في زمن يراقب فيه كل الناس كُل فعلٍ صغير منك كهذا الزمن.
سعادةُ البداياتِ هذه لم تستمر طويلاً، مع تناقص قدرتي على الحركة وإنجاز الأعمال نتيجة تدهور صحتي بفِعل الحمل، لم أُدرِك نفسي إلا وأنا في أعماق حفرة الفشل وعدم الاستحقاق وعدم الكفاية. صرتُ أقضي النهار في ساعاتٍ من البكاء لعدم قدرتي على إنجاز أعمال المنزل أو عملي الخاص، كنت أريدُ أن أكون “كل شيء”، الأم التي تحملُ في داخلها حياة جديدة تأكُل من جسدها ومن دمها وصحتها، وتأكل الهرمونات من نفسيتها وعقلها، وكذلك سيدة المنزل التي تهتم بكل شؤونه وترتّب كل قشّةٍ في البيت في مكانها، والمرأة العاملة التي تنجز أعمالها وتسلّمها قبل الديدلاين، والكاتبة التي تخاطب جموع القراء، والفنانة التي ترسم وتنشر الألوان في كل مكان، والصديقة الجدعة التي تساند أصدقاءها وتخفف عنهم وتظهر بينهم فلا يفتقدوا صحبتها، والابنة البارّة التي تزور أهلها وتودّهم.
كنت أريدُ أن أكون غير عادية، ألا أستسلم لأوجاع جسدي ونوبات الاضطراب الهرموني والخمول البدني، وحاجتي الملحّة للراحة. رفضتُ بشدة أن أقضي أيام تعبي تلك في منزل أهلي حتى لا أرهق نفسي بالأعمال، كنت أقول لنفسي “أنا لستُ هذه الفتاة العادية، أنا استثنائية، أستطيعُ فعل كل شيءٍ وحدي”.
كلما ازداد التعب كنت أزداد انطفاءً وبكاءً ونقمةً على نفسي وعلى العالم، كنتُ في سباقٍ محموم وغير معلومٍ أين يقع خط نهايته بالضبط.
فشلت كل المحاولات في إقناعي أن ما أمُر به طبيعي، وأنني يجب أن أستسلم للراحة وأتوقّف عن جلد ذاتي والغرق في الإحساس بالذنب، كيف؟! كيف لا أجلدُ ذاتي وأنا أرى نفسي أنضمُّ إلى صفوف العاديين الذين تؤثّر فيهم الظروف الطبيعية؟!
جعلني هذا أستغل كل نوبة عافيةٍ تأتيني وسط التعب في محاولة إنجاز أي شيء، في حالةٍ من التخبّط والتشتّت الشديد.
لماذا كل هذا؟!
لأننا في سباقٍ دائم، تقودنا الرغبة الدائمة في أن نُصبح غير عاديين في كل المجالات، موهوبين أذكياء، نحقق أعلى النتائج في كل شيء، في شكلنا ومظاهرنا، وطريقة حياتنا وشخصياتنا.
تأثير التعريف المجتمعي لـ”العادي” كان بالغ القسوة على الناس، فنحنُ نقيسُ قدراتنا بناءً على هذا الخط الوهمي المرسوم، ونحدد نظرتنا لأنفسنا بناءً على نفس المعيار المغلوط، فنفقد ثقتنا في أنفسنا خطأً، أو نكتسب إحساسًا بالفوقية والثقة والغرور حين نشعر أننا فوق العادي في مجالٍ ما. نقضي حياتنا في مقارناتٍ ننكرها عادةً ولكنها تحدث في داخلنا. نزِن بها أنفسنا ونحدد قيمتنا أمام أنفسنا والعالم، ونعادلها بالشعور بالاستحقاق أو عدم الاستحقاق.
ما الخطأ في ذلك كله؟
أن “العادي” هو شيء نسبي ومتغيّر ويختلف حسب الموقف وحسب والقدرات، “العادي” بالنسبة للمجتمع هو تعريف سطحي، وخط مصمت، لا يعترف بالاختلافات الشخصية وبالفروقات الفردية، وعادةً هو مرتبط بإنجازٍ ملموس، ويتجاهل قيمًا هامة مثل قصص الحياة الملهمة للأشخاص، فحتى الإلهام والتميّز بالنسبة للمجتمع صار يُقاس بقدرتك على الوصول لأكبر عددد من البشر وصعود القمة، متجاهلاً إنجازاتك في دائرتك الصغيرة.
قد تكون أبًا عظيمًا أو أمًا رائعة بالنسبة لأطفالك، قد تكون موظقًا موهوبًا، وملتزمًا وقادرًا على الإنجاز في دائرة شركتك الصغيرة، وقد تكون فنانًا موهوبًا جدًا بالنسبة لطلبتك في الفصل، لكن المجتمع لن يرى ذلك، والعالم لن يلاحظك، ستظلٌّ أبًا عاديًا وموظفًا عاديًا ومدرّسًا عاديًا، لأنّك لم تصل إلى دائرة الشهرة، ولم يعرفك الكثير من الناس ويصفقون لك، ويعطونك إحساسًا زائفًا بالإنجاز المختلف لأن العالم صار يعرفك.
صرتُ أُدركُ جيدًا الآن أن المألوف أفضل، أن الإنجاز الحقيقي ذو قيمة وأثر حتى لو لم يره غير شخصين، وأنّ ذلك الذي لم يفعل سوى أنه “واقف لسة على رجليه” يحقق في هذه اللحظة إنجازًا ما بالنسبة لدائرة قد لا أعرفها أنا.
وأنّ من حقّنا الراحة أحيانًا، ومن حقّنا السكون إلى الحياة الهادئة البسيطة إن أردنا ذلك، وأنّ السباق الذي كنت أظُنّ أن عليَّ أن أربحه دائمًا ليس له خط نهاية سوى السقوط الأخير، وأنّ الإنجاز شيءٌ نسبي، وأنّ الاستحقاق حق، كلّنا نستحق التقدير من شخصٍ ما على هذه الأرض، أب أو أم أو زوج أو أصدقاء، حتى ولو لم يكافئني العالم ولم يلحظ وجودي المجتمع، هؤلاء يمكن أن أكونَ بالنسبة إليهم عالمًا بأكمله، يقدّرونه ويعرفون قيمته ويؤثر في حياتهم بشكل مباشر، لكننا ننشغل عن هذه الحقيقة بالجري خلف صك الاستحقاق المجتمعي.
ليست تلك دعوةٌ للتخلّي عن الأحلام، ولكن، مع العام الجديد، أجدّدُ نيّتي بأنّ أحلامي لن تكونَ المعوَل الذي يقسم ظهري ويحوّل نظري عن الضروريات والأولويات، وأن الحلم الذي لا يتحقق لأنه لم يُكتب له التحقّق ستُكتَبُ غيره أحلامٌ أخرى. وأنّ البحث عن الاستحقاق والتميّز لن يكون المحرّك الرئيسي لنوبات الاكتئاب وسقطات جلد الذات.
نَحْنُ نستحقّ، وإنجازاتنا مهمة ومؤثرة ما دُمنا نحاولُ بكل ما في وسعنا.