أبو السعود الإبياري.. صانع البهجة الوقور

1453

مر شهر نوفمبر الرقيق علينا بسرعة ككل الأشياء الجميلة، وما يزال صدى الأغنية الجميلة يتردد في رأسي، وما زالت إذاعتي المفضلة تعيد وتزيد في تكرار هذه الأغنية بلا كلل منها، أو ملل يصيبني.. “أنا قلبي دليلي قالي هتحبي”.

تختتم المذيعة الأغنية بلكنتها القديمة المميزة كما تفعل دائمًا.. “استمعتم إلى أغنية قلبي دليلي لليلى مراد من كلمات أبو السعود الإبياري”.

 

قلبي دليلي 1947، تأليف الفيلم وكلمات الأغاني لأبو السعود الإبياري

أبتسم ابتسامة واسعة متفائلة بنهار جميل ككلمات الأغنية.. ما زال صوت المذيعة يرن في أذني.. كنتم مع كلمات أبو السعود الإبياري.

أتذكر أنني قرأت هذا الاسم مساء أمس، ربما في أثناء مشاهدتي لفيلمي المفضل، الذي يخرجني دائمًا من حالة الغم كل مرة بنفس النجاح “البحث عن فضيحة”، بهجتان مختلفتان لكن الاسم واحد أبو السعود الإبياري.

 

ذكرى ميلاده هو أيضًا كانت في شهر نوفمبر، شهر الحب عند المصريين، وبدقة أكثر، أتت ذكراه بعد أيام قليلة من عيد الحب المصري.. هو أيضًا قد صنع تراثًا فنيًا بنكهة مصرية خالصة.

 

أبو السعود الإبياري.. رأيت اسمه كذلك على تترات عشرات الأفلام القديمة، لا سيما أفلام بطلي المفضل إسماعيل ياسين، تكرر الاسم كثيرًا ولم أرَ صورته أبدًا.. هكذا مؤلف الفن دائمًا، نرى عمله ولا نرى صورته أو نسمع صوته.. في الأغلب الأعم لا نتذكر حتى اسمه، ولكن الكل يتذكر كلمات خرجت من روحه لتنتقل إلى الورق، ثم إلى الشاشة أو أسطوانات الأغاني.. ربما هذا هو العزاء الحقيقي للمؤلف.

 

“يا صفايح الزبدة السايحة يا براميل القشطة النايحة”.. ربما لا نتذكر اسم الفيلم ولا مؤلفه، لكن كلمات كتلك محفورة بالتأكيد في وجداننا.

 

التقيت بالفنان أحمد الإبياري، السيناريست والمؤلف المسرحي ونجل أبو السعود الإبياري، في مسرح الريحاني، وهو بمثابة البيت الثاني لعائلة الإبياري. التقيت به في محاولة للاقتراب من والده الكاتب العبقري الذي عشق الجمهور أعماله ربما بدون معرفة الكثير عنه شخصيًا.

 

يقول المؤلف أحمد الإبياري عن مؤلفات والده: “في هذه الأعمال الفنية القديمة لم يكن هناك مجال واسع للارتجال، فالكلمات التي دخلت التاريخ وأحبها الناس وحفظوها عن ظهر قلب كتبها والدي بيده، فلم يكن هناك من يضاهيه في كتابة الحوار السينمائي والمسرحي، الذي يدخل القلب فورًا ولا يمكن نسيانه، وكذلك الجمل الافتتاحية المميزة للأغاني التي كتبها وعشقها الجمهور العربي. كان أبي غزير الإنتاج، في الواقع كان نهرًا متدفقًا من الفن بكل أشكاله”.

 

كتب أبو السعود الإبياري للمسرح والسينما عددًا كبيرًا جدًا من الأعمال التي عشقها الجمهور، ربما دون أن يتساءلوا عن اسم المؤلف صاحب الموهبة الفريدة.

 

بداية من فيلم “لو كنت غني” لبشارة واكيم وعبد الفتاح القصري، وصولاً إلى فيلم “البحث عن فضيحة” لعادل إمام، مرورًا بأعمال بينهما لا تُنسى شكّلت وجداننا كمصريين.

 

“فاطمة وماريكا وراشيل”، “عفريتة هانم”، “أربع بنات وظابط”، “تاكسي الغرام”، “الحموات الفاتنات”، “عفريتة إسماعيل ياسين”، “سكر هانم”، “الفانوس السحري”، “حلاق السيدات”، “الزوجة الـ13″، “جناب السفير”، “صغيرة ع الحب”.

عفريتة هانم 1949

ومن رصيده أيضًا عدد كبير من الأغاني المتنوعة والمحفورة بعمق في الذاكرة الجمعية المصرية.

“اضحك كركر اوعى تفكر”، “معانا ريال”، “البوسطجية اشتكوا”، “يا نجف بنور”، “يا رايحين للنبي الغالي”، “يا حسن يا خولي الجنينة”.

ومن شدة تنوع كلمات أغنياته، لا يمكن لمن لا يعرف الإبياري أن يتخيل أن كاتبها هو شخص واحد استطاع أن يقدم هذا المدى الواسع من الكلمات الخفيفة والعميقة والرائعة في كل الأحوال.

 

ظهرت موهبة الإبياري في طفولته المبكرة، حيث كتب الزجل، ونشر ما كتبه لأول مرة في مجلة تسمى “الأولاد”، وهو ما زال في التاسعة من عمره، وتلقّى مقابل ما كتبه بعض قطع الشوكولاتة.

 

وبعد سنوات قادته الصدفة لمسرح الريحاني، حيث كان جارهم الإيطالي قائد الأوركسترا هناك، وجذب العالم السحري للمسرح هذا الشاب اليافع صاحب الموهبة الربانية، حيث أصبح يتردد على المسرح باستمرار.

 

عرف الإبياري أن بديع خيري يجلس مع نجيب الريحاني في مقهى عماد الدين يوميًا، فبدأ في التردد على المقهى ليستمع إلى حواراتهما.. تشجّع وقدم نفسه لبديع خيري الذي تنبأ له بمستقبل مبهر في الكتابة الفنية، وبالفعل تحققت النبوءة، وأصبح الإبياري المؤلف الأكثر إنتاجًا في السينما المصرية.

http://images0.masress.com/moheet/306017

أبو السعود الإبياري صانع البهجة الوقور

كان الإبياري ابن بلد يعرف الأصول، ويختلط بالناس في كل مكان، يسمع ويتعلم من مدرسة الشارع، كما كان يثقف نفسه بالقراءة والاطّلاع على الكتب والمراجع والأفلام من بلاد العالم المختلفة حتى آخر أيامه.

 

كان جادًا وقورًا ومتأنقًا، ولكنه كان يعرف كيف يكتب الجمل الحوارية القريبة من قلب الجمهور، كتب الكثير من الأفلام لإسماعيل ياسين، لدرجة أن البعض قد يظن أنه لم يؤلف لفنان آخر غير “سُمعة”.. لكن الإبياري في الحقيقة قدم عشرات الأفلام لكل نجوم عصره، وكان بعضها بعيدًا عن الكوميديا مثل فيلم “اليتيمتين” لفاتن حمامة، وفيلم “معلش يا زهر” لشادية وزكي رستم.

 

كان الإبياري قادرًا على تقديم الجديد دائمًا، ففريد الأطرش برزانته المعهودة غنّى من كلماته “ياما جوة الدولاب مظاليم”، أما يوسف شاهين ففيلمه الكوميدي الوحيد “إنت حبيبي” كان أيضًا من تأليف الإبياري. وكان إسماعيل ياسين صديقًا للإبياري بالفعل وكان توأمه الفني، لكن ما لا يعرفه البعض أن الصديق الأكثر قربًا إلى قلب الإبياري كان محمود المليجي.. أشرّ خلق الله على الشاشة وصاحب القلب الطيب في الحقيقة.

فيلم إنت حبيبي 1957

“كان لوالدي روتين ثابت في العمل، حيث يبدأ الكتابة في منزلنا في التاسعة صباحًا، ثم ينتقل إلى كازينو أوبرا بميدان الأوبرا الشهير ليكمل ما بدأه، أما في الصيف فكان كازينو الشاطبي في الإسكندرية مكانه المفضل للكتابة.. أما القراءة فهي الهواية التي لم تفارقه طوال حياته، حيث كان يقرأ في كل المجالات”.. هكذا تحدّث أحمد الإبياري عن والده.

 

وأضاف قائلاً: “أبي كان يعشق التغيير في كل شيء، وحتى في أثاث وديكور منزلنا، الذي لم يكن يستقر على حال، نفس الشيء في عمله، فكان يكتب الأغنية والأوبريت والمقال الصحفي والمسرحية والفيلم، التراجيدي والكوميدي، رغم شهرته ككاتب كوميديا في المقام الأول، كان أبًا حنونًا لكنه حازم جدًا، وكانت سخريته لاذعة كأعماله الفنية، تأثر بحكايات ألف ليلة وليلة والأساطير القديمة، وكان أكثر من كتب أفلامًا لها طابع خيالي في السينما المصرية، بعض أفلامه كانت مقتبسة من قصص عالمية، لكنه كان حريصًا على أن يعلن ذلك على تترات الفيلم، ما كان يفعله أبي ويظنه البعض أمرًا هيّنًا هو تمصير القصص العالمية ببراعة في بعض أفلامه، فالأفكار كثيرة ومتاحة، لكن تطويعها لتناسب جمهورًا شرقيًا له ثقافة معينة، هو أمر يحتاج مهارة خاصة لا تتوافر لدى كثيرين، كانت له فلسفة خاصة، فكان يحب أن يراقب البشر وأحوالهم وما تفعله بهم الحياة، كانت فلسفته ظاهرة في أفلامه، فمن ينظر لأفلام مثل لو كنت غني، أو المجانين في نعيم وغيرها من الأفلام الكوميدية البسيطة، سيجدها تحمل معاني عميقة في الوقت نفسه”.

سكر هانم 1960، من أجمل الأفلام الكوميدية في السينما المصرية

سكر هانم وحوار لا ينساه الجمهور المصري

مات الإبياري وترك تراثًا كبيرًا لمحبيه، وكذلك لأبنائه الذين أكملوا مسيرته الفنية رغم تحذيره لهم من صعوبة طريق الفن. لكن يبدو أن المناخ الذي يحيط بالمبدعين يترك أثره على المحيطين بهم من فرط سحره، فأولاد الإبياري أحمد ومجدي ويسري قدموا أيضًا أعمالاً مسرحية فارقة في تاريخ المسرح الكوميدي في مصر، وإن لم يكن إنتاجهم بغزارة وتنوع ما قدمه الإبياري الكبير.

 

“موليير الشرق” أبو السعود الإبياري، أو “منجم الذهب” كما يحب البعض أن يلقبه، لم ينصفه بعض النقاد الذين لا يعرفون أن “الضحك للضحك” هو هدف في حد ذاته بالنسبة لبعض صُنّاع الكوميديا، هو هدف ينتظره الجمهور المتعطش للضحكة، وهو هدف سامٍ صعب الوصول إليه بالمناسبة، ولا يجيده سوى عدد قليل جدًا من المبدعين.

الزوجة الـ13 عام 1962

لم تُكرّم الدولة الإبياري في حياته أو بعد رحيله عام 1973، فلم يحصل سوى على وسام الفنون من مجلس قيادة الثورة لتقديمه مسرحية “مراتي من بورسعيد” عام 1956، كما حصل على جائزة أفضل سيناريو عن فيلم “الزوجة الـ13” من المهرجان القومي للسينما في عام 1963، لكنه لم يحصل على التكريم الذي يستحقه عن مجمل أعماله، كأكثر المؤلفين إنتاجًا في تاريخ الفن المصري، وكحجر زاوية في تشكيل وجدان الشعب المصري لسنوات طويلة.

http://www.elcinema.com/person/pr1028476/ph123507245#show-photo

صورة 8: الإبياري مع إسماعيل ياسين، وستيفان روستي وصديق عمره محمود المليجي

 

ما زالت مقتنيات أبو السعود الإبياري لدى عائلته.. نصوص مكتوبة بخط يده، وصور تجمعه بنجوم الزمن الذهبي للسينما والمسرح في مصر، وعقود أعماله الفنية.

 

كثير من الجهد الدؤوب على مدى سنوات طويلة، لتقديم فن ممتع للجمهور المصري والعربي.. فهل يفكر أحد القائمين على التراث الثقافي بضم هذه المقتنيات في متحف خاص بها لتصبح قِبلة لمحبي الفن المصري من جميع الأجيال والجنسيات؟

 

المقالة السابقةالنفسية محتاجة توك توك ومهرجانات
المقالة القادمةإلى نسمة.. عن الأجنحة المتكسرة
مترجمة ومحررة أخبار بالإذاعة، وكاتبة سيناريو، وعضوة في اتحاد كتاب مصر.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا