بقلم: سلمى محمود
أنت تعلم ما هي الوحدة. تُدرك معانيها القاسية جيدًا، فربما أصابتك سهامها يومًا وخلَّفت على روحك آثارًا لا تُمحى، تركتك غارقًا في بحور من الوهن والحزن تصارع أمواجًا عاتية دون أي فُرصة للنجاة، تتذكر سوداويتها كسرداب مُظلم يخيم على أرجائه الظلام الدامس، تفشل معه في إيجاد باب الخروج، لتسير بلا هوادة نحو الهاوية، تخنُقك كمقطوعة موسيقية حزينة تشعر وكأنها تحرق أذنيك وتُدمي قلبك، تُخيفك كوحش مقيت ترعبك ذكراه في النوادر وأنت لم ترَ ظله قط، تكئبك كنهاية حزينة تفسد عليك متعتك بفيلمك المفضل، بينما تمرضك بعدوى مميتة تصيبك بالوهن ولا تفلح معها أشد العقاقير مفعولاً.
أنا والوحدة
أن تفزع دون أن تجد من يهدئ من روعك، يربت على يديك ليُخبرك أن كل شيء سيكون على ما يرام، يستمع إلى ترهاتك البالية ومصائبك العويصة بنفس القدر من الاكتراث والاهتمام، ودون ذرة واحدة من التأفف والتذمر، وكأنك حِمل ثقيل على كاهله يتمنى لو تُفرِغ ما في جُعبتك سريعًا لتلج قدماه مكانًا آخر أكثر إمتاعًا، ينصت إلى أكثر اللحظات سوءًا، أشد الخطايا كبرًا، أعنف الهفوات خطأً، دون أن يغرقك بسيل من الأحكام الأخلاقية لتتمنى حينها لو تنشق الأرض وتبتلعك.
تضفي الوحدة على لحظات حزنك وتعاستك مكونًا إضافيًا على مقاديرها لتجعلها وجبة متكاملة من البؤس والشقاء، بينما لا تتمكن من تفعيل خيار “المشاركة” إن مرت عليك نسمة عابرة من نسمات السعادة أو النجاح، فأنت لست مُتيقنًا من أن أحدًا قد يهتم بمشاعرك البالية أو يكترث لوجودك من الأساس، تخشى تلك اللحظة الثقيلة التي تمقتها بقدر ما مرت بها وجوه متجهمة غير مكترثة تُبخر نسمات حماسك وشغفك واحدة تلو الأخرى وكأنها فقاعات ناعمة تسير بلا هوادة في طريق ممهد بالأشواك، أما إن وقعت في بوتقة من الخيارات المصيرية فلا تجد من يمد إليك يداه ليرشدك إلى الطريق الصحيح، ولكنك وحدك تنتقي اختياراتك على طريقة اليناصيب.
أنا رفقتي الوحيدة
هل جربت أن تشاهد مباراة كرة قدم وحيدًا دون رفيق؟ أن تقفز فرحًا لفوز فريقك وتعلو مشاعرك عنان السماء دون أن تجد من تضرب يديك بيديه وترتفع صيحاتكم معًا في لحظات الحماس الممزوجة بالفرحة العارمة؟ تتابع مسلسلك المفضل دون أن تحظى برفيق يشاركك المشاهدة والنقاش العميق حول الحبكة وفريق العمل أو حتى البطل الوسيم الذي أثار إعجابك، ينتظر الجميع لحظات إصدار مطربهم المفضل الألبوم المنتظر، يتبادلون الأغاني وينسجون الخيالات حول العلاقة السرية التي كانت الدافع الأكبر ليغني المطرب الشهير لونًا لم يعتد عليه طوال تاريخه، بينما لا تجد أنت سوى جُدران غرفتك لتشاركك الاستماع والنقاشات البائسة.
لا رفيق لك في ليالي الشتاء الباردة سوى كوب النسكافية الدافئ وسُترتك المبطنة والأفلام التي أصبحت تحفظ مشاهدها أكثر ممن قاموا بتأدية أدوارها، لا صاحب لك في رحلات الصيف الحارة وجلسات الشواطئ المُسلية التي تكتفي خلالها بمصادقة الشمس والفضفضة مع البحر باعتبارهم رفقتك الوحيدة وإن لم تكن صديقهم الوحيد. لا شريك لك في جرائم الطفولة البريئة ولا خطط المراهقة الصبيانية ولا هفوات الشباب العنيفة، الكرسي المجاور لك في جلسات السينما إما يسكنه غريب أو يخلو من أي جليس، بينما يعلو الطاولة طبق واحد في المطعم الذي حلمت بتجربته يومًا، لا صاحب لتحاكيه عندما يخفق قلبك لأول مرة، أو عندما اشتريت قطعة الثوب التي خطفت عقلك منذ رأيتها، أو إن قُبلت في الوظيفة التي اعتقدت أنك بعيد كل البعد عنها، أو حتى لتشاركه المنشورات الرديئة على وسائل التواصل الاجتماعي، إنما يتغير الكون من حولك بينما تمارس أنت فعل المشاركة وحيدًا.
انتظار الانتظار
تقضي أيامًا طوال في العزل الإجباري متواريًا عن الأعين، منغلقًا على ذاتك، تمضي الساعات أبطأ من سير السلحفاة وأنت تحدق في سقف غرفتك بينما تحادث أصدقاءك الوهميين وتغرق في بحر من الخيالات التي لا تتعدى فرضية حدوثها نسبة الـ1%، يصبح للانتظار لون حزين بائس لا ملامح له وأنت تنتظر أن ينقضي اليوم بكل أحزانه ومآسيه لتبزغ شمس يوم آخر لا يخيم على ساعاته أي جديد.
“مستر انطوائي” أو “سيدة منغلقة” هكذا يميزك من حولك، بمجرد أن يُذكر اسمك أو يُرى طيفك يبدؤون في إطلاق سيل من النِكات والنوادر على الشخص الذي قضى نصف عُمره دون رفقة، الشخص الذي يحتاج إلى خطط معقدة ليفارق غرفته وأيامًا طوال ليقرر إجراء مكالمة تليفونية لا تستمر في العادة أكثر من خمس دقائق! الشخص الذي يعتبر رنة الهاتف نذير شؤم بينما رسائل الواتساب تنذر بكارثة على وشك الحدوث، الشخص الذي يتلجلج في حديثه مع الغرباء وكأنها عملية حسابية معقدة، بينما يحادث ذاته في الغرف المغلقة بطلاقة، الشخص الذي لا يشبه أحدًا ولا أحد يشبهه.
لم تحظَ بصديق واحد حقيقي طوال حياتك، إنما ظللت محاصرًا بصداقات عابرة مؤقتة، لا اهتمامات مشتركة، لا لغة حوار واحدة، لا تشابهات، وكأنك لاعب كرة ينتقده الجميع لأنانيته المفرطة ويتساءلون لماذا يمارس الفردية في لعبة أهم ما يميزها الجماعية، ولكنه في الحقيقة فشل في إيجاد من يمرر له الكرة، فاتجه إلى الحل الفردي، لأنه طريقه الوحيد لهز الشِباك.
التصالح مع الوحدة
شيئًا فشيئًا أصبحت الخطوات التي تلجها قدماك عنوة تستحوذ على كامل شخصيتك وحياتك، فلم تعد الوحدة تخيفك كوحش شرس تفر فور رؤيته، إنما تغيرت الأدوار وأصبح ذلك الوحش صديقك المفضل الذي تجد معه الملجأ والمعزى، لم تعد غرفتك تلك الزنزانة التي تقبع فيها قهرًا، إنما أصبحت ملاذك المُفضل الذي يحتضنك بعيدًا عن العالم الذي لم يفهمك يومًا، تشتهي تلك اللحظات التي تقضيها بغرفتك تشاهد فيلمًا أو تقرأ كتابًا أو تتصفح صفحات التواصل الاجتماعي، أو حتى تحادث ذاتك بتفاصيل يومك التي لا تهم أحدًا غيرك، كمثل اشتهائك لقطعة الكريز أعلى التورتة التي يتسابق الجميع للظفر بها.
أصبحت تهرب فعليًا من تكوين الصداقات وأضحت همًا ثقيلاً على قلبك، فربما اعتدت العيش وحيدًا دون رفيق، تجيد ألاعيب المراوغة والإفلات من أي مناسبة اجتماعية أو تجمع مثل لاعب محترف يصنع الفارق في صفوف فريقه المحلي. لم تعد تضايقك الوحدة، إنما أصبحت بمثابة جزء من شخصيتك، وكأنها تميزك عن الجميع، لم يعد السؤال المُكرر عن “لماذا أنت وحيد؟ وكيف تقضي أيامك هكذا؟!” يثير جنونك وتستشيط غضبًا فور سماعه، إنما أصبحت تعتلي وجهك ابتسامة ساخرة وتُجيب بكل هدوء عن كيف يُخلف الأمر في نفسك راحة ولذة لا تعلم مصدرهما!
ربما تأتي عليك لحظات تفتقد وجود الصحبة من حولك، ولكنك في النهاية اعتدت الوحدة واعتادت عليك، كمِثل زوجين يحسدهما الجميع على علاقتهما المثالية، وهما في الحقيقة لا يطيق أحدهما الآخر، ولكنهما اعتادا على التأقلم والتعايش معًا مهما كلفهما الأمر.
اقرأ أيضًا: عن فيلم فوتوكوبي والحظر والوحدة