ومن الفشل أصنع نجاحًا

611

 

بقلم/ سلمى شعبان

 

ترددت كثيرًا، وكثيرًا جدًا، قبل أن أكتب عما حدث..

مر قرابة العام والنصف وأنا ما زلت أفكر: هل آن لي الأوان أن أكتب عما حدث أم لا؟ وقررت أن أكتب في النهاية “نعم من الفشل نصنع نجاحًا”.

 

تبدأ فصول الحكاية في العام الماضي مع بداية الدراسة، حيث كنت مللت البقاء في المنزل مع الصغار، وقررت استئناف عملي مرة أخرى، كنت قد عزمت وخططت للبحث عن مدرسة تناسب كل ظروفي الحالية، وكنت أظنني أبحث عن شيء صعب المنال. ولكن بكل بساطة وجدت ضالتي في مدرسة قريبة من منزلي ويوجد بها حضانة لا بأس بها من أجل أطفالي، وتناسب مواعيدها إلى حد ما مواعيد عمل زوجي. توجهت إليها مباشرة وتقدمت بطلب الوظيفة، وحصلت عليها بعد مقابلة بسيطة مع المديرة.

 

ولكن كانت العقبة الوحيدة في طريقي هي العمل نفسه! فكانت كل مواصفات العمل لا تتواءم مع خبرتي السابقة، وقد طُلِب مني تدريس أربعة مناهج مختلفة. ترددت، بل ترددت كثيرًا جدًا. سألت الجميع: ونصحني الجميع بالقبول. ولم يعيروا أيًّا من مخاوفي اهتمامًا، فأنا كنت من الأكفاء، وبماذا سيضرني تدريس أطفال صغار، ومناهج بسيطة. وقبلت.

 

وبدأت العمل، ولكن كان وما زال هناك إحساس يطغى على قلبي أن هذا المكان ليس بمكاني. لم أشعر بالراحة قط، لم أتذوق طعمًا لها طيلة مكوثي في المكان، من السابعة صباحًا وحتى الثانية ظهرًا. كانت تسيل دموعي دون سبب كلما اختليت بنفسي، ولم أكن أدري لهذا سببًا واضحًا.

 

تعرفت على زميلة تشاركني العمل، كانت لي كالظل. دارت كل أحاديثها عن سوء المكان واكتظاظ المكان بالـ”العصافير”، وعليه راودني شعور غريب عجيب بعدم الارتياح للمكان. مر الشهر الأول بسلام، وبدأت الدراسة وأنا على أتم الاستعداد لطلابي. كنت قد جهزت كل شيء حتى الكتب قد وضعتها على المناضد. وانتظرت بقلب يملؤه الشغف هولاء الصغار، وكيف ستكون رحلتي معهم. لم أكن أدري أنني على وشك البدء في معركة لا زالت أحداثها في ذهني إلى الآن.

 

يمر اليوم سريعًا لدرجة كنت معها لا أدري إن كنت أسير على الدرب الصحيح أم لا؟ أسأل ولا أحد يجيب. كانت كل الإجابات مبهمة، حتى في أدق تفاصيل العمل التي تختلف من مدرسة لأخرى. لأجدني أردد بيني وبين نفسي “لا أريد العمل هنا”. كنت ألجأ لزميلتي تلك لأسئلها عن تفاصيل العمل وسير الدروس باعتبارها أكثر خبرة مني، فكانت تجيب ولا تجيب. تجيب إجابات مقتصدة وغير واضحة، تستخدم وسائلي، تستعير أفكاري وتبخل بالكثير.

 

توالت الأحداث سريعًا. ومرض أطفالي مرات عدة، وغرقت بين دوامة العمل والمنزل، وعدم قدرتي على فهم طبيعة العمل، فقد كان الشهر الأول ولم يقف أحد بجانبي مطلقًا. بدت الأمور على ما يرام، لكنها لم تكن كذلك أبدًا.

 

استيقظت في يوم ما على كم من الشكاوى ضدي، لم يكن كمًا الحقيقة، بل كان سيلاً من الاتهامات والمواجهات والمبارزات، بت معها لا أدري كيف لي أن أتعامل مع كل هذا. دعمتني رئيستي في العمل ولكن دون دعم. صرحت لها مرارًا: “لا أدري عن طبيعة العمل شيئَا!”، وكانت تردد: “اسألي فلانة”. وأعود لفلانة تلك فلا تفيدني من قريب أو بعيد.

 

تدهورت نفسيتي بشكل كبير، فكنت في السابق من المدرسات المتميزات: كان يتحدث الجميع عن عملي وتفوقي، لأجد نفسي وسط مواجهة حاسمة مع الأمهات والإدارة، وتقرر فصلي عن العمل بعد العديد والعديد من الشكاوى.

 

وقفت أمام نفسي وبكيت مرارة الفشل. أنا حتى الآن لا أستطيع أن أدرك كيف حدث هذا. لتأتي لي “فلانة” مرددة قبل فصلي من العمل بيوم “تخيلي.. تخيلي يا سلمى بيقولولي إحنا حظنا وحش إنك مش بتدي ولادنا والمدرسة التانية دي مبتفهمش حاجة.. إحنا بنحسد فصلك عليكي”.

 

أغلقت الهاتف وهرعت لزوجي وانهرت حرفيًا. انهرت أمام تلك الكلمات التي أتتني من صديقة، أو هكذا كنت أظنها! بت لا أفهم، لكنني شعرت براحة ما فيما حدث. كنت أصلي لربي وأدعوه أن يخرجني من هذا الموقف، وقد كان لي ما شئت. لكن الصفعة كانت قوية جدًا، أو هكذا كنت أظنها. نظرت لنفسي ورددت “أنا لا أقوى ولن أقوى على تدريس الصغار”. لم ولن أحاول.

 

استمرت تلك الفلانة في نقل أخبار عملي السابق، مؤكدة لي في كل مرة أن الجميع مؤمن بأنني قد ظُلِمت وأنه “حسبي الله ونعم الوكيل فيهم!”.

 

في العام التالي: عرضت عليَّ نفس الوظيفة ولكن في مدرسة أخرى. مع بعض الاختلافات في شكل ومضمون العمل. ترددت كثيرًا لكنني لم أجد أي مجال آخر سوى تلك السن الصغيرة. يا الله أنا لا أريد الصغار! أنا لا أريد الفشل! لكني سألت نفسي، ولم لا؟! وقبلت التحدي، وقررت أن أغير ما حدث في الماضي.

 

وفقني الله، واستطعت بفضله أن أدرس الصغار، لأجدهم يوميًا في كل صباح في انتظاري يركضون خلفي وينتظرون حصتي كل يوم، يستمعون لي ويفهمون جيدًا ما أشرح. وعندما سألت بعضهم ماذا يريدون أن يصبحوا في المستقبل رددوا we want to be Teacher Salma!” هكذا عوضني الله، ومنحني ثقتي في نفسي من جديد، وأرسل لي زميلات جديدات مهدن لي الطريق وأرشدنني لكل تفصيلة صغيرة كانت وكبيرة، وصنعن معي نجاحي ونجاحهن.

 

لم أسرق من نجاحهن شيئًا، ولم أهدد بقائهن في العمل كما كانت تعتقد زميلتي “فلانة”. أما مدرستي السابقة، فقد عرضوا على الرجوع ورفضت.. نعم حقيقة! ليس  هذا بفيلم هندي، عرضوا عليَّ الرجوع مرات عدة، ورفضت كذلك مرات عدة، رغم مميزات المكان وارتفاع الراتب، ولكنني أيقنت أن ذلك أكبر رد اعتبار لي.

 

رددوا لي “عودي لتثبتي نفسك وتؤكدي أنك قد ظلمت”، وراودتني فكرة الرجوع ورد اعتباري، ولكنني تذكرت أن نجاحي بمفردي وصراعي لإثبات أمر أثق في حقيقته غير مجدٍ على الإطلاق. فقد صنعت نجاحي من جديد وأثبت لنفسي -قبل الجميع- أنني قادرة على التحدي.

 

استيقظت في يوم ما على سيل من الشكاوى ضدي

 

المقالة السابقة5 تصورات ظلمت الحب
المقالة القادمةالحب وحده لا يكفي
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا