ما تفعله بنا الموسيقى

645

 

بقلم/ شروق مجدي

 

أتساءل دائمًا ما الذي تفعله الموسيقى بالناس. هي لا تسحرنا، هي تذيبنا. نقف كالجبال الجليدية وتلمسنا فنذوب، نذوب ولا نتساقط، نتلاشى ببطء، بهدوء، وعندما تتساوى أجسادنا بالأرض نشعر لأول مرة بالسكينة. تُسكِننا. تسكننا وتذوب فينا فنشعر أننا نتوحّد مع العالم. أننا نحن والسماء والأرض والنجوم كلنا واحد، كلنا نسكن ذلك الجسد الضعيف، الذي لم نعرف قبلاً أنه يتسع لكل هذا.

المرة الأولى التي فهمت بها تعبير “أكاد من فرط الجمال أذوب” كانت أيضًا بسبب الموسيقى. كنا في حفل بسيط يحييه أطفال. صعد الأطفال المسرح وتقدّموا نحونا ثم بدؤوا بالغناء. في لحظتها أحسست بذلك الشيء يجتاحني، وبكيت. ليس حزنًا وليس فرحًا أيضًا، لكن بسبب ذلك الشعور الغريب، شعور أنني على وشك أن أذوب، أن كل ما حولي بالعالم يتلاشى، ينطفئ ببطء أمام كل ذلك الجمال الذي أشهده.

وبالموسيقى لا أعني فقط الأصوات التي تخرج عن الآلات العذبة، بل عن موسيقانا نحن البشر، في غنائنا وتغريدنا. يسحرني ويعجزني عن النطق كيف تنطلق تلك القوة الجامحة من أجساد صغيرة وهشة كأجسادنا. أشاهد مغنيًا في لحظة وصوله لقلب الأغنية، للحظة الكريشندو كما يسمونها، يصرخ ويفتح ذراعيه كأنه يحتضن العالم. يصل لتلك اللحظة، لحظة التوحّد مع كل شيء حوله. يتلاحم جسده مع الأرض والسماء بينما يطلق فينا صوتًا لا يمكن أن يصدر من شيء نعرفه، لا من حنجرته ولا من قلبه، بل من شيء باطني، مكان يتخفّى عنا تمامًا، من أعماق روحه.

كنت في حفل أوركسترا منذ أيام، وفي منتصف الحفل ولّيت ظهري للمسرح وجلست أراقب الناس حولي. حركاتهم، تفاعلاتهم مع الألحان المختلفة، تمايُل أجسادهم، البسمة الهادئة على وجوههم، البهجة التي تعتريهم عندما تتصاعد الألحان. لا يمكن أن يتشكّل كل ذلك بفعل شيء عاديّ. لا يمكن أن يكون مجرد آلات تتناسق حركاتها وأصواتها. هو يتعدّى هذا إلى ما لا نهاية.

خُلِقَ الكون بالموسيقى، حفيف الأشجار وهدير البحر وصفير الريح وحتى كل الأشياء التي لا ندري لها صوتا. ربما كان للنجوم صوتٌ أيضًا، موسيقى من نوع خاص لا نسمعها بوعي لكنها تصلنا وتسحرنا بالنجوم كل هذا السحر. وأجسادنا، في حركة أعضائنا ودمائنا، ربما كان يصدر صوت لكل منهم لا ندري عنه شيئًا، وتتناظم تلك الحركات مع بعضها لتصنع لنا موسيقى خاصة لا ندري عنها شيئًا أيضًا، لكنها تجوبنا طوال الوقت، وربما كانت هي السبب في أن أبسط أشكال الموسيقى الخارجية يأسرنا بداخله.

حزين جدًا أن قليلاً فقط من الناس هم من وجدوا موسيقاهم الخاصة. حزينٌ أننا لا نستطيع أن نخرج منا غناءً يملأ الكون مثلهم. حزين أنني عندما أدندن أدندن لنفسي ولا أستطيع أن أدندن للعالم. لكن ربما كان لكلٍ منا طريقته الخاصة في إخراج موسيقاه، في رسمة ينقشها أو في كلمة يكتبها، أو ربما كان يخرج موسيقاه في عينيه.

تلمسني الموسيقى بأيديها الخفية فتلمسني الحياة. يقشعر بدني وأكاد أشعر بقلبي ينتفض من مكانه. أتنفس بعمق وأظل أردد لنفسي: “أنا حية.. أنا حية”.

 

خُلِقَ الكون بالموسيقى، حفيف الأشجار وهدير البحر وصفير الريح

 

المقالة السابقةماذا يعني تحقيق الذات وكيف يمكن تحقيقه، وما هو المقياس العالمي له
المقالة القادمةعدوي اللدود
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا