بقلم/ كريستين رفيق
قرر أن يتركنا دون أن يستمع لرأيي أو حتى لقرار يكمن في داخلي.
عشت 29 عامًا من عمري كل ما أعرفه عن الموت هو اللون الأسود وواجب العزاء وفنجان القهوة فقط. ومهما أرادت الأيام أن تسمعني قصصًا وعبارات لرحيل أحبائها لم أكن مدركة كم الألم الواضح في عباراتها. إلى أن قررت الحياة أن تعلمني أبشع وأقوى دروسها، وأمسكت بكرباج ضفر من عروق النخيل وصارت تجلدني دون شفقة.
بدأت ساعات يومي بشكل عادي وروتيني.. ظننت يومًا أن روتينها كان مملاً بما يكفي.. وكم جعلتني أتمنى عودة هذا الروتين.. كم كان ممتعًا أكثر مما كنت أتوقع!
دقت الساعة الثانية عشر ظهرًا، ليخبروني بتعب أبي، فأسير مهرجلة أحمل طفلتي التي لم تبلغ عامها الرابع، لأراه مستلقيًا أبيض الوجه ويقول لي “خلاص”. لم أستمع لكلمة، كل ما فعلت هو حمله مسرعة لأقرب مستشفى خاص.. في الطريق قال لي الكثير، ولكن كنت على يقين أنها أزمة كسابقتها وسوف تذهب لحالها بمفردها. كان في داخلي تأكيد أننا سنذهب معًا للمشفى ونرجع معًا ولم ألاحظ أن الدنيا بدأت تسرد وتكتب أول سطور الدروس العصيَّة.
لتفاجئني أن الأزمة لم تذهب بمفردها بل سلبت أبي من بين كفوف يدي، وخرجت من المشفى حاملة ملابسه فارغة، لتبقى في ذاكرتي دقائق اليوم العصيب بكل تفاصيله وآهاته، وأتفاجأ أنه أخبر الجميع أنه راحل وتصالح مع الكل.. ونسي أن يخبرني حتى أن يأخذني قدر استطاعتي بين ضلوع أحضانه.
لم كنت أعلم معنى مفارقة الروح إلا عندما ظللت أتحدث إليه لأسمع صوته كعادته، لأرى ضحكته، ليضم يدي إليه، ولكنه لم يفعل شيئًا.. فكان هذا موتًا.. ملعونة هذه الكلمة وملعونة حروفها.
صرخت إليهم أني في حاجة إليه.. تحدثوا إليه ليعود.. لقد خجلت طيلة عمري أن أخبره أني أحبه وأشتاق إليه.
ماذا فعلت بي الأيام لتمر سنوات عمري وأنا أخجل من أن أخبره كم أحبه! وكم مرة أردت أن أرتمي في حضنه! نسيت أن أفعل الكثير والكثير من أجلك يا أبي، في الوقت نفسه أنت قدمت فيه كل شي من أجلي.
الحق الحق أقول.. أحبوا آباءكم بكل طاقتكم، قبلوا قدمهم قبل أن تسرقهم الأيام خلسة من بين أيديكم، فبدونهم تكشف الأيام عن مخالبها.
أحبوا آباءكم بكل طاقتكم