عفوًا “عبد المجيد”.. أنا مش “ذات”

1973

 

بقلم/ هبة

من منا لم تشاهد “ذات” و”عبد المجيد”؟ من منا لم تسرِ بداخله تلك الرعشة من الحنين وهو يعايشهما فيتذكر تفصيلات حانية محفورة على جدار القلب والروح؟! من منا لم يرَ في “ذات” الكادحة أمه، و”عبد المجيد” أباه أو بعضًا منه.

 

أزعم أن “ذات” هي أمي وأم كل بنات جيلي، ويكفي أن أقول لمن لا يعرفهما إنهما يمثلان السواد الأعظم من آبائنا وأمهاتنا من جيل الخمسينيات والستينيات.فذات هي الأم المعطاءة المضحية المدبرة، والعمود الفقري لكل أفراد الأسرة، والتي يستمر عطاؤها للأبد، وأبد الأبد.

 

وهي أيضًا المرأة التي نشأت في مجتمع ضاغط، وُجِّهَ إليها منذ صغرها رسائل ضمنية تتمثل في ألا تتعدى حدود الإطار الذي يرسمه لها الآخرون، مجتمع تعمَّد تقزيم حجمها وإشعارها أنها دومًا على خطأ، وأنها يجب عليها أن تظل محتفظة بمكانتها المتقزمة رغم ثقل أدوارها الحياتية، لكي تظل من المَرضِي عنهن. فهي كتلة من العطاء اللا محدود تسير على قدمين، ولكنها محملة دومًا بأعباء لا تستطيع الإفصاح عنها، تنشد دومًا رضا الآخرين، تتحمل ما قد لا يطيقه بشر من سوء معاملة واستخفاف بمكانتها، فقط لتظل ضمن الإطار المرسوم بعناية الذي خطَّه مجتمعنا الذكوري رجالاً ونساء لها منذ ولادتها.

 

هي نموذج المرأة التي قُمِعَت وجبلت على التضحية طوال سنوات عمرها وكأنها أمر مُسلَّم به، وتجد نفسها متزوجة من رجل لا يمت لها بصِلَة، ورغم ذلك تؤدي رسالتها في الحياة بجدارة واستحقاق.. تربي وتلبي رغبات الكل بلا نقاش، وربما بلا تقدير أيضًا.

 

أما عن “عبد المجيد” فحدِّث ولا حرج، فهو نموذج لزوج وأب محدود الطموح، يمتد أقصى طموحه لتوفير قوت أسرته وما يكفيهم ويؤمِّن مستقبلهم، ويعيش عمره كله يدور في ساقية لا يفهمها ولا يرغبها.. وينتهي به العمر هو و”ذات” على الكنبة وسط الأدوية.. أمام التليفزيون.. لا يعرفان فيمَ ضاع عمريهما؟

 

شئنا أم أبينا.. واجهنا أم أنكرنا.. تلك هي الحقيقة، وما عايشناه وما نخاف منه رغم تقديرنا وحبنا الشديد لآبائنا وأدوارهم التي لا نختلف عليها مطلقًا في حياتنا، لكن هناك مشكلة، فلا فتيات اليوم “ذات”، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون نموذج “عبد المجيد” هو نموذج الرجل المواكب لهذا العصر. وليس من المفترض أن يكون شكل مواكبته للعصر أن يكون نجمًا من نجوم السوشيال ميديا أو أن يقضي وقت فراغه على المقاهي والكافيهات.

 

سيناريو “ذات” و”عبد المجيد” هو سيناريو كل الأسر المصرية تقريبًا، ولكنه كان يصلح لوقتهما، ولا ينتمي لعصرنا بأي حال من الأحوال.

 

المشكلة بدأت في الظهور في جيلَي الثمانينيات والتسعينيات، فالفتيات تربين وهن يشاهدن أمامهن نموذج “ذات” المقهور الفاقد للخصوصية المُحرَّم عليه تحقيق الأحلام والاستقلالية، وبالتالي يرفضن من داخلهن ذاك النموذج ويقعن في حيرة بين أمرين يفصل بينهما شخصيتي الأم والابنة والعلاقة بينهما.

 

فالأم دونًا عنها تورث شعورها بالألم والحاجة للتعاطف والانتشال من الضغوط إلى الابنة، وتورثها كذلك حلم الاستقلالية والمساواة، فنجد أن معظم بنات جيلنا نشأن في بيوت تُرسِّخ أن البنت زي الولد في الدراسة والعمل، وقَلَّت حدة اللهجة التي تنادى بأن “البنت للجواز وبس”.

 

وبالتالي ترفض البنت من داخلها نموذج أمها، وترفض أن تنتهي إليه، وتقع في صراع بين حبها لأمها وامتنانها لها على كل تضحياتها، وينتهي الصراع بأن تستسلم لتكرر نفس السيناريو حرصًا على رضا أمها، وبالتالي رضا المجتمع. أو أن تسعى لتتحرر وتثبت كينونتها فتواجه الانتقادات من الكل، وربما من الأم التي أصبح اللا شعور يحركها. وإذا حالفها الحظ وكانت الأم متفهمة ستفتح المجال لابنتها لاختراق الحياة على مصراعيها، متحملة عنها كل اللوم، حتى لو كانت من داخلها تتمزق من شعورها بالدونية، لأنها لم تستطع فعل ذلك لنفسها.

 

أما بالنسبة للشباب الذين نشأوا في بيئة تُرسِّخ لنموذج “ذات” و”عبد المجيد”، وفي نفس الوقت يرى أمامه فتيات يواكبن العصر في الاستقلال في الحلم والعمل والحياة، فينشأ في صراع لا يُحسَد عليه بين نموذج المرأة الأم المتفانية التي لا ترفض له طلبًا، والتي تفني عمرها لخدمته وتسعى لراحته وتحمل عنه كل شيء، فهي دون وعي منها تفرِّخ للمزيد من نموذج “عبد المجيد” للمجتمع.. بينما في أرض الواقع هو لا يقابل ذلك النموذج، فيجذبه النموذج المختلف الطموح ويسعى لامتلاكه، وما أن يمتلكه حتى تبدأ مرحلة الصدمة.. “أنا عاجبني ده بس أنا عاوز ماما”.

 

للأسف هي مش “ذات”، ولن تكون، لأنها رافضة هذا الدور ومتشربة طموحًا وتحديًا واختلافًا ومسؤولية.. كيف تصبح “ذات”؟

لا هي “ذات”.. ولا أنت لك توصيف.. لا أنت “عبد المجيد” ولا قادر على مواكبة النقلة التي انتقلها الجيل.

 

وقد ينجو من هذا السيناريو من الشباب فئة قليلة، أيضًا حسنة الحظ، لو الأم عندها مساحة من استيعاب الذات والغير وربَّته على احترام كينونة المرأة والفواصل بين الأجيال، وأن يكون لديه دومًا هدف كبير يسعى إليه في الحياة، فينشأ بدوره مختلفًا ورافضًا لشخصية “عبد المجيد”.

 

والحل؟! الحل يبدأ وينتهي عند “ذات”..

رسالة لـ”ذات” كأم ستمرر كل الأحاسيس والأفكار والقيم والمبادئ لجيل كامل من الأبناء، تتلخص في أن كل “ذات” محتاجة لتقف وقفة مع نفسها وتردد لنفسها:

“اقبلي نفسك.. بعيوبها.. ومميزاتها.. لا يوجد نموذج مثالي…. أنتِ لستِ سوبر ماما، وليس كل شيء مسؤوليتك وحدك.. أنتِ بني آدم.. وله طاقة.. احترميها من فضلك”.

عبري دومًا عن نفسك ولا تكتمي داخلك.. هذا حقك على نفسك.

حافظي دومًا على وجود علاقة متينة بينك وبين أولادك.

حرري نفسك.. تُحررين بناتك من صراع نفسي وهمي بينهن وبين صورتك أمامهن.. وتُحررين أبناءك من الأسر داخل صورتك والتقصير مع بنات الناس.

 

ولكل شاب: الآن لا ينفع أن توجد “ذات”.. “ذات” تغيرت وتستطيع بسهولة جدًا أن تكمل طريقها معك أو دونك.. زمن “ذات” انتهى!

المشكلة بدأت في الظهور في جيلَي الثمانينيات والتسعينيات

 

المقالة السابقةلم يعد الغياب موجعًا
المقالة القادمةتألقي بالوردي الناعم من وحي مدونات الموضة
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا