ماذا لو.. ماتت الألوان؟

403

 

كتبه: بولا سامي

 

بما أني مهندس تشطيبات؛ فالألوان دي -زي ما بيقولوا- لعبتي .. كل مكان ليه لون مختلف عن الثاني؛ يعني المدرسة ليها كود ألوان مختلف عن المستشفى … إلخ. الفكرة أن مفيش حاجة مالهاش لون، حتى الشفاف ده لون، حتى وإن كان محايد مش بيعبر عن لون معين.

فاكر أن كان فيه تدريب كنت بعمله مع نفسي دائمًا؛ وهو رسمة المندله Mandala بس أنا ماكنتش بحط ألوان وخلاص، كنت بختار لون بيعبر عن حالتي في اللحظة دي هنا ودلوقتي، وأفضل أرسم بيه لحد ما أخلص الجزء ده، وأختار لون للحظة اللي بعدها هنا ودلوقتي؛ لأن مشاعري تغيرت لأني عبّرت عن اللحظة اللي فاتت باللون اللي فات. ماكنتش بركّز أني أختار ألوان ماشية مع بعضها، إنما ألوان بتعبر عن مشاعري في وقت ما أنا بلوّن.

أفتكر كنت بعدِّي لحظة غضب شديد، واخترت ساعتها لون الأحمر الغامق، وفضلت بلوّن بيه؛ وكأن الغضب كان بيترسم باللون، لدرجة أن الورقة كانت هتنقطع. وبعدها انهرت في بكاء شديد جدًا؛ وكأنه حرر الغضب اللي كان مسجون جوايا. وبعد النوح كان فيه راحة شديدة وفاكر أني ساعتها اخترت اللون الأزرق السماوي، لوني المفضل اللي بيعبر عن سلامي وشعوري بالهدوء. وساعتها خلصت رسم المندله وكانت أجمل مندله، واكتشفت أن الألوان اللي مش ماشية مع بعضها بتلقائية طلعت أحلى من المندله اللي ألوان رسمها بتكون مقصودة.

علشان كده بستغرب جدًا لما ألاقي أن الحب هو اللون الأحمر، بحس أنه محدود جدًا لما أعبر عنه بلون واحد، أنا بحس أنه كل الألوان في بعضها، حتى الرمادي والأسود أوقات بيكونوا لحظات حب. ثواني افهمني .. حتى الحب ممكن يتقدم بشكل أسود ومغلوط. هو صحيح حب من وجهة نظر اللي بيقدمه، لكنه بيكون مؤلم  جدًا للي بيستقبله، زي الأب اللي فاكر أن اللبس والأكل والشرب هي دي الوسايل اللي بتعبر عن حبه لعيلته، هو ده حب بس مش الحب الوحيد اللي ممكن يتقدم.

فاكر في سنة دخلت متحف فيه لوحات فنية معروضة، وكنت منبهر بلوحة وقفت قدامها أتأملها وأتأمل تفاصيلها، وابتديت أحس بالريشة وهي بيترسم وأعكس رؤيتي ليها. السنة اللي بعدها عديت قدام اللوحة، وافتكرتها ومقدرتش أقف قدامها لحظات. كل حاجة بشوفها هي انعكاس للي جوايا زي الألوان بالضبط. علشان كده لما تتفرج على فيلم ويعجبك جدًا وحد تاني مايعجبوش، ده معناه أنه ملقاش حتة جواه موجودة في الفيلم فعلشان كده ماتفاعلش معاه.

جاتلي فكرة مجنونة كده؛ ماذا لو صحينا الصبح ولقينا الألوان ماتت وكأن كل شيء بقي منعدم اللون، ايه اللي ممكن يحصل؟ فكرة مش ممكن نتخيلها! طيب بلاش لو بقت كل حاجة بلون واحد، تخيل كل يوم الصبح بتشوف الناس اللي حواليك زيها زي الجماد بلون واحد بس الفرق أنها بتتحرك؛ فين الحياة في لون واحد. تخيل أنك مش هتعرف تقول “الله دي حاجة شكلها حلو” ليه؟  لأن لونها زيها زي الحاجة الوحشة والحاجة الوحشة مش هتميزها؛ لأن كل حاجة بقت بلون واحد.

الألوان بتخلق حياة، بتخلق الكون، والكون هو انعكاس لينا واللي في قلبنا .. مقدرش أعيش بمشاعر وحيدة، وإلا كل الناس هتفقد شغفها في الحياة.

حسيت أني ممكن ما أقومش من النوم بس لمجرد أن الحياة بقت لون واحد، مملة وباهتة ومتكررة .. حسيت أن الألوان بس بتخلق لي نمط للحياة مختلف، ومش متكرر لعيني. بس علشان أن كل حاجة لونها مختلف .. في مرة من المرات كنت بمتنّ لربنا على الألوان، بشكره على وجودها، بشكره أنه خلقها لأن فيها بنلمس مشاعرنا، وبتقابل مع ربنا في الألوان لأن الألوان حية، والله هو الحياة اللي تنبض في الألوان وتعكس اللي جوايا.

وكأن اللون الأخضر اللي بحبه وبحسه بيعبر عن فرحي .. ربنا بيشاركني فرحتي باللون ده، ولما أكون حزين وأشوف اللون الأسود فيّ؛ كأن الله بيشاركني حزني وبيقول أنا حاسس بيك .. فهو بيقول لي إن كل لحظة بشوف فيها لون معين، بيقول لي أنا معاك في اللحظة دي.

لما كنت بعدِّي بوقت صعب، وببدأ رحلة نضوجي وكبري وبتشكل من جديد، كنت بشوف كل الألوان بمشاعر واحدة، حتى الأخضر اللي بحبه كنت بشوفه بشكل ناقم أو غاضب؛ وكأن الحياة كلها كانت لون واحد. وكنت غرقان في دور ضحية الظروف، وهي الحياة كده، والسبب فلان وفلان، وكنت مستسلم لحالة واحدة وبقت كل الألوان بالنسبه لي لون واحد.

لمَّا تغيرت وابتديت أشوف وأستمتع بالحياة برشفة القهوة ولونها وريحتها، وأستمتع بملمس الخشب وتفاصيل عروقه، ودهان الحيطة المحبب، وأستمتع بالعصافير وهي بتطير من غصن الشجر للتاني، وألوان الأخضر اللي في الشجر اللي متدرجة مش كلها نمط لون واحد .. ده مش وسواس .. دي حياة بعيش كل لحظة، وكل لحظة عدت فاتت، وبقت ماضي محتاج أعيش دلوقتي .. والألوان هي الوسيلة اللي كانت بتربطني بيها .. فبقيت بستنشق الألوان 🙂

لما كانت كل الألوان لون واحد كنت حقيقي ميت، والألوان كانت ميتة في عيني. لكن لما بقيت عايش بقيت بشوف كل الألوان، حتى الحاجات الوحشة اللي كل الناس بتشوفها وحشة، بلاقي فيها ألوان حلوة جدًا.

المقالة السابقةفصول الحياة ومواسمها
المقالة القادمةأيامنا ألوان

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا