أيامنا ألوان

596

 

بقلم آن سامي

 

أعاني من اضطراب غريب، أطلقت عليه اسم “اضطراب استخدام الأشياء الجديدة”! فعلى الرغم من سعادتي عند شراء ما أحتاج؛ إلا أنني أجد تلك السعادة قد تحولت إلى قلق بالمرات الأولى عند استخدامي تلك الأشياء! ربما بسبب حرصي الزائد على عدم إتلافها أو طموحي الحالم في الحفاظ عليها (كأنها بشوكتها). وهو أمر خيالي، خصوصًا مع الاستخدام المتكرر، ولشخص عفوي مثلي! دفاتري المدرسية في الطفولة كانت شاهدًا على تلك الطموحات؛ والتي بدت على هيئة تسطيرة منظمة وخط مرتب واضح في الصفحات الأولى منها فقط؛ حتى ينفلت الزمام، فتمتلئ بقية الصفحات بخط أشبه بالشفرات والرموز المبهمة التي ربما تحتاج إلى فك!!

أحلامنا ألوان

تعاودني تلك الأفكار في بداية كل عام جديد، يراودني الحلم الوردي للكشكول ذي الخط الأنيق حتى آخر صفحاته. لأتأرجح بين محاولات السيطرة بالخطط والتوقعات المبالغ فيها وبيع القضية بأكملها .. وأهي أيام بنعيشها والسلام!

تعصف الأيام برياحها المتقلبة غير المتوقعة، فتتطاير معها أوراق الأماني والأحلام، صدمات في النفس والغير، مسؤوليات مفاجئة، فقد…إلخ لأخرج منها باستنتاج واحد؛ لكم هو وردي ساذج حلم السيطرة، دون الوضع في الاعتبار لما قد تحمله الأيام -بل حتى خبايا النفس- من ألوان داكنة!

تصطبغ الأيام بمسخ الألوان إذا ما عيشت “عيشة زي ما تيجي تيجي”، تنسكب ألوان العمر من بين أيدينا فتُحرم أيامنا من لون وجودنا الأصيل، ونُحرم نحن من وهج ألوان لحظاتها المبهجة!

وبين خبرات الحلم الوردي الساذج وقبح الأيام باللون المسخ نتعلم؛ نتعلم كيفية الرسم برشاقة بألواننا على صفحات العام الجديد البيضاء منها، بل حتى السوداء!

الرسم على الصفحات البيضاء

إن شبهت الأيام بالصفحات؛ فأجمل صفحاتي ليست تلك التي ابتسمت لي فيها الدنيا بما يبهر من مفاجئات سارة مبهجة اللون، بل الصفحات التي طغى بها لوني الخاص؛ الأيام التي أحببت فيها تفرد لوني فصرت أرسم وأرسم مستخدمة إياه بثقة! الأيام التي صممتُ فيها أذني عن أصوات الناقد الداخلي واخترت أن أحيا على طريقتي الخاصة جدًا، بعيدًا عما يفعله الآخرون من حولي؛ ككيفية آدائي لأمومتي، وإنجازي لمهامي، حتى أبسط الأمور، كطريقة إلقائي التحية على حارس البناية التي أسكن بها! أيام أملؤها بزخارف من تفاصيلي البسيطة التي قد لا يلحظها أحد سواي، أرسمها بنفسي ولنفسي أنا فقط؛ لأنها ببساطة محببة بالنسبة لي!

هنالك أيضًا صفحات أحب أن أطلق عليها الصفحات الثرية؛ وهي التي تزخر بحياة متقدة بالمعنى. فإن كان حب النفس والاتساق معها يزيد من جمال الأيام جمالًا فهذا لا ينفي حقيقة أن الالتفاف المبالغ فيه حولها لن يجلب سوى لون الاكتئاب الداكن. كم هي غنية ومشبعة الحياة التي تُبذل في تحقيق هدف أسمى منها خارج أسوارها،غنية ومشبعة للآخرين وللنفس أيضًا!

وهنا دعني أسألك: هل بدأت في رحلة اكتشاف المعنى من وجودك أم لا؟ هل تذوقت من قبل التعب اللذيذ المبذول لأجل غاية عليا؟ إذا لم تبدأ؛ فأنا أشجعك أن تخوض تلك الرحلة الاستكشافية لما ستضفيه من ثراء وغنى لأيام وسني عمرك.

الرسم على الصفحات السوداء

في مشهد رائع بفيلم The Shawshank Redemption يتحدث البطل السجين مع رفقائه في السجن عن فترة حبسه الانفرادي، وكيف قضاها في الاستماع إلى موسيقى موزارت؛ الأمر الذي أصاب زملاءه بالحيرة، فلا يوجد بالسجن الانفرادي رفاهية كتلك! وهنا أجاب البطل أنه كان يستمع إليها في عقله وقلبه؛ حيث لا يمكن أن يصل إليه سجانوه!

قد تقسو علينا الدنيا بتغيراتها الفجائية المرعبة، لكن ظلامها لن يستطيع أن يقتحم عنوة قلبًا مفعمًا بالإيمان والأمل؛ الإيمان الذي يرى ما لا يُرى، والأمل الذي يثق في الله ورحمته من يهبنا الصبر لاجتياز الضيق.

وأحد تلك الألوان التي يتجلى جمال الرسم بها في الصفحات السوداء؛ هو لون الامتنان. فالامتنان هو عدسة التقاط الجمال من وسط خراب العبث، وهو الذي يساعد في حفظ شعلة الأمل متقدة. ذلك الذي إذا التزمنا بشحذ سن قلمه في أيامنا المستقرة سيسهل علينا الرسم به ببراعة بالأيام المضطربة.

طاقتنا ألوان

ليس فقط أيامنا ألوان، بل طاقتنا أيضًا يا صديقي. فلا بأس من أن يبهت بريق طاقتك في بعض الأيام جراء ثقل الهموم أو حتى التعب. حينها لا تنسَ أن ترأف لحالك وقدِّر جهدك؛ فمجرد الشخبطة في تلك الأيام هي بمثابة فنّ، فأنت من تعطي القيمة لما تفعل وليس العكس!

وأخيرًا دعنا لا نغفل حقيقة أنه ستتوالى علينا الصفحات البيضاء والسوداء، سنتَّقد بالحماس وستخفت شعلتنا باليأس في بعض الأحيان. وتفعيل قبولنا لتلك الحقيقة سيفتح العنان لحياة مفعمة بالإبداع.

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةماذا لو.. ماتت الألوان؟
المقالة القادمةالرقص مع الحياة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا