في كل مرة أهم فيها للدخول في تجربة جديدة، أيًّا كان نوعها، أمرر إلى عقلي خِلسة اعتقاد أن شيئًا ما، غير محسوب العواقب سيحدث، وأن لزامًا عليه أن يقوم باتخاذ التدابير الاحترازية، لتقليل آثاره السلبية، أو ربما لتخفيف وطأة تحطم الأحلام الوردية على صخرة الواقع، وجعل صوت ارتطامهما معًا مألوفًا، ما يقلل عمر الصدمة ويعطي للحلول السريعة وبقايا الوردية قُبلة النجاة في خضم المعركة. العالم شمالاً وجنوبًا، غربًا وشرقًا، لم يعد يستوقفه عيد أو مناسبة، كل ما يستحوذ على انتباهه الحالي هو “كوفيد 19” أو بتعبير أكثر تداولاً “فيروس كورونا المستجد”. ولعلك تسمع الآن عن خطط العالم يمينًا ويسارًا، لنحقق التعايش مع الفيروس، في ظل التراجع الاقتصادي، وضبابية الرؤية فيما يتعلق بالتوصل للقاح.
فهل فكرت في رسم مخططك الخاص على طريق التعايش ؟ كيف ستقضي الوقت خارج منزلك؟ ما الأشياء التي ستعطيها الأولوية القصوى في حياتك خلال الفترة القادمة؟ ماذا عن المحيطين؟ وكيف ستسير أقدام الإنجاز جنبًا إلى جنب مع الحرص واليقظة لكل كبيرة وصغيرة تمر بها؟
قوانين المناعة
بينما تطالع مئات، بل آلاف الأخبار والمعلومات والأوراق البحثية، عن كوفيد 19، سيستقر بك حدسك نحو المطبخ، نعم يا عزيزي، ما قرأته صحيح تمامًا، ففي الوقت الذي يتحدث فيه البعض عن أهمية تناولك فيتامينات “سي” و”دال”، بالإضافة إلى الزنك، يتحدث آخرون عن خطورة تعرضك لسُمية المعادن جراء تناول كميات كبيرة منها، وبينما يتكالب الناس على الصيدليات لتأمين أنفسهم بكميات من هذا او ذاك، سيخبرك مطبخك العزيز بأن تعالَ يا صديقي فأنا ملاذك الآمن دومًا.
وإذا كان لكل بنيان أعمدة يقوم عليها، فإن أعمدة المناعة هي الغذاء السليم، بكل ما يشتمل عليه من فيتامينات ومعادن، لذا فأول ما يجب الاهتمام به هو ما غذاؤك، وإذا كانت الأعمدة في حاجة لترميم، فإن أول ما يجب التعامل معه هو أسباب فسادها، عليك بها جميعها، توجه نحو ثلاجتك وخزانة طعامك تخلص من كل ما يساورك شعور سيئ نحوه.
حاول في تلك المرحلة الاستعانة بالأبحاث العلمية المنشورة في مجال الأغذية، كذا توصيات منظمة الصحة العالمية فيما يجب أن يُتناول وما يجب أن يحتفظ بموقعه في سلال القمامة فداءً للمعدة. لا تنسً أيضًا بينما تصارع هذا العدو الأخرس الذي لا يُخبرك شيئًا عنه، أن تتسلح بإيمانك بأن العلاج آتٍ وإن طال الانتظار، وأن الأخذ بالأسباب طوق نجاة آمن ومضمون، فالله قد أراد السلامة.
تسلح بسلامك النفسي، دع التوتر جانبًا، وإياك، ثم إياك، ثم إياك، والضغط العصبي أيًّا كانت أسبابه، فهذا هو عدو مناعتك الأول يا صديقي، لا تعبث معه أبدًا. وفي سبيل التعايش حاول أن تحافظ على قسط وافر من النوم والراحة، وحدد لنفسك إنجازات يومية ممكنة التحقق لدعم حالتك النفسية، وقبل أن تمرر أي معلومة أو خبر إلى عقلك، حاول أن تُخضعه لقوانين المنطق والعلم، ولا تجعل شيطانك ينفرد بك، في موطن جهل لك.
جدول المهام
في ظروف كالتي نُعايشها، قد تأخذك قدماك إلى حيث سلة الفوضى وترميك، لكن صدقني، الفوضى هي طريقك الأسرع نحو الاكتئاب وفتور الهمة وتكالب اليأس والملل عليك، فأكثر الأوقات حاجة لدليل هي أوقات التية والضياع كوقتنا هذا، الذي نحارب فيه، عدو نجهله، نتوقع حدوث كل شيء سلبي ونتمنى أن ترمينا السماء بشيء إيجابي، بينما يضل الضوء الأخضر طريقه إلينا ويسود الاحمرار ويُسيطر.
حينما تضع جدولاً لمهامك اليومية وأهدافك الأسبوعية، ستجد لأوقات الترفية واللهو طعمًا آخر، ما كنت لتذقه لو أن الحياة “سداح مداح”. أحضر ورقة وقلمًا، ضع خطة اليوم، وحاول قدر إمكانك الالتزام بها، مع وضع خطط بديلة على الهامش، وذلك مراعاةً لما قد يستجد، فلا تترك للصدفة شيئًا، سأستيقظ في تمام كذا، من كذا إلى كذا سأقوم بكذا.
ولا تنسَ مراعاة حجم المهام وتنوعها، بحيث لا يأتيك يوم ثقيل، محمل بمهام ضخمة ومتشابهة، تشعر معه أنك تحمل الدنيا وما فيها فوق ظهرك، ثم يعقبه يوم فارغ إلا من الملل والضجر.
تدليل النفس
حينما يُحدثك أحدهم عن حُسن إدارة الوقت، وينسى أو يتناسى المرح بوصفه غير مهم، لا تعطِ اهتمامًا يُذكر لما يقول، لأنه ببساطة سيصير كباقة من الورود الجميلة، مليئة بوعود هانئة، لكن مرور الوقت وتكالب الظروف عليها، لن يزدها إلا ذبولاً، فاللهو وتدليل النفس مهمة، شأنها شأن إنجاز عملك على نحو يُرضيك ويرضي رب عملك، أو الحصول على جسد ممشوق بعد الخضوع لكورس مكثف من التماريين الرياضية، أو ربما إتمام المذاكرة لابنتك مع شعورك بالرضا عما صنعت معها.
والحقيقة أنني أظن أن المواطن في شعوبنا النامية، مواطن بائس لأسباب لا علاقة لها بالمستوى الاقتصادي، فشعورك بالمرح ليس مشروطًا بثرائك، لأن سُبله في الترفيه عادة ما تكون محدودة، وفي بعض البيئات تكون معدمة تمامًا، بالدرجة التي تجعل الكد والجد مختلطًا إلى حد كبير مع اللهو واللعب، هو يستيقظ من نومه باكرًا ويذهب إلى عمله في الساعة والدقيقة المحددة، وفي صميمه يظن أنه ملتزم ومنتج وفارق ومفيد. بينما حقيقة الأمر أنه أبعد ما يكون عن ذلك، هو يبحث عن الراحة والتسلية لتمرير الوقت في العمل، الذي يجب أن يُنجزه على أكمل وجه.
قد يعيش إنسان، حياة طويلة، دون أن ينتبه لحقيقة ما يسعده تحديدًا، ما هي الأشياء التي تبعث فيه البهجة؟ كيف يستمتع بوقته لاهيًا؟ فالأمر لدينا مختلط إلى حد كبير، لذا فعليك أن تجلس مع نفسك جلسة مطولة، حاول خلالها أن تضع قائمة بأنشطة اللهو واللعب والتسلية التي تستهويك، وحاول أن تُطَعِم بها جدول مهامك، كمن يضيف حبات اللوز والجوز المحمص إلى وجبة عادية، وكله يقين أنها ستُحدث فارقًا.
الخروج عن النص
في حياتنا العادية، نحن نحتاج إلى الروتين اليومي والعادات، فعلى هياكلها المتينة، نصنع بصمات مميزة لأوقاتنا ويصير للأشياء العادية وقع فريد، فالعادة -على عكس ما يعتقد كثيرون بأنها مدعاة للملل- هي أحد انعكاسات شخصياتنا المميزة، التي يعضد التوقع فاعليتها، في خلق ارتباط بيننا وبين أيام أعمارنا المختلفة، وإذا كانت عاداتك اليومية صحية ومنقحة بحيث تدعم صحتك ونجاحك في الحياة، فأنت -بلا مواربة- شخص محظوظ، لا تحاول أن تُبدد هذا الحظ الوافر بدعوى التجربة، استقر يا صديقي وامضِ فيما أنت عليه.
لكن في أوقاتٍ كتلك التي نعايشها الآن وحتى يكون لديك القدرة على التعايش، أنت في حاجة ماسة إلى الخروج عن النص أحيانًا، بحيث يصير لكل يوم شخصية مختلفة، تأخذك معها إلى حيز لم تتوقعه من قبل، لم تعتَد السهر لساعة متأخرة من الليل، افعل ولو لليلة أو ليلتين، لم يأخذك فضولك يومًا نحو مشاهدة الأفلام الهندية. جرب لن تندم على التجربة وإن لم تجد نفسك فيها، جرب أن تصطدم مع كل ما ظننته عادة ودستورًا، ارتدِ لونًا لم يسبق لك أن ارتديته، غَير عاداتك بأخرى وحلّق بعيدًا عن فضائك، لكن لا تنسَ أن تضع إشارات على طريق العودة.
الفرص الضائعة
رغم ضبابية الرؤية، هناك إشارات على الطريق تقول بأن خططنا المؤجلة في القراءة والمطالعة والبحث والتعلم ممكنة، وما زالت تنتظر صيادًا ماهرًا ليقتنصها ببراعة، بينما الآخرون مشغولون بشكواهم من الفراغ، الذي امتلؤوا به حد الضجر.
حاول ألا تضيع الفرصة الآنية، بالبقاء غالبية الوقت في المنزل، أسلك طريق التعلم عن بُعد وكلك يقين أنه الأنسب والأجدى للمرحلة الحالية، تعلم لغة جديدة، شاهد كيفية الاستفادة من الأشياء القديمة بإعادة تدويرها؟ كيف تُنتج محتوى ذا قيمة على الإنترنت؟ تعلم أي شيء وإن لم يسترعَ فضولك، من يدري ربما استحوذ على اهتمامك كله مستقبلاً.
بعد عدد لا بأس به من التجارب الحياتية، صرت ألمح الفرصة قبل قدومها، ويوخزني ذلك الشعور بأنها ستمر دون انتباه تستحقه، لإيماني بأننا مأخوذون بومضية الأحداث التي تجرنا خلفها، كلص يحمل سرقته ويجري هاربًا قبل أن ينتبه له أحد المارة، فانتبه ماذا تحمل لحظات العمر معها، بينما تُداري سرعة الأحداث جُعبتها بمكر ودهاء؟
الواقع الآمر
تحدثك نفسك أن الأعمار بيد الله، وأن لكل أجل كتابًا، وأنها “مجتش على خروجة”، والواقع المتخم بأعداد المصابين والموتى يخبرك بشيء آخر، لذلك حاول أن تُسكت صوت المتمرد بداخلك واجعله يستسلم للواقع الآمر، لتبدأ في التعايش وترتيب حياتك، بدلاً من العويل على الأيام الخوالي.
ابدأ في خلق سبل بديلة للتواصل مع البعيدين عنك، من أفراد عائلتك وأصدقائك، شاركهم ما تقوم به خلال اليوم، سيشعرك هذا بشيء من السلوان والرضا. اصنع في منزلك كل وأي شيء كنت تدخر المجهود بجلبه جاهزًا من الخارج، واملأ الدنيا فرحًا بالنتيجة على تواضعها: “يا سلام أحلى من بيتزا هت دي ولا إيه!”.
تجنب اتخاذ قرارات مصيرية أو المضي خلف خطوات حاسمة في حياتك خلال هذه المرحلة، فقط اجعلها فترة إعداد لكل ما تنوي تحريكه في اتجاهات متباينة مستقبلاً. حوّل المنزل لملهى كبير، في كل ركن من أركانه، اقتطع لنفسك عالمًا خاصًا بك، تفتقده بالخارج: بالبلكونة جلسة كالتي للكافيهات، وهناك دار عرض سينمائي معتبرة. اسعد بالجمع واللمة من حولك، وتعلم ذكاء المسافات، خصص لنفسك من اليوم وقتًا تقضيه بمفردك، افعل به ما شئت، حتى لو كانت رغبتك مجرد السكون بلا حراك.
وحينما تهم للخروج من المنزل للعمل، تذكر الأسباب والأخذ بها، تعامل مع كل من يقابلك أنه سبب محتمل للعدوى، وإذا لم يكن الخروج لضرورة، اسأل نفسك سؤالاً محوريًا: هل تستحق تلك الخطوات للخارج أن تستقر في كفة تقابلها كَفة بها حياتي وحياة من أحب؟
اقرأ أيضًا: في العزل المنزلي: 11 فيلمًا للقضاء على الملل
مقال رائع كعادتك استاذه منى و ربنا يزيح الغمه عنا جميعا