الرقص مع الحياة

814

 

كتبه: رفيق رائف

 

في مثل تلك الأيام، أجدنا جميعًا مشغولين بوضع أهداف وخطط كثيرة للسنة الحالية؛ خطط لندرس أكبر عدد ممكن من الكورسات والشهادات، أو كى نمارس الرياضة بشكل منتظم حتى نحصل على أفضل صورة لأجسامنا، أو لنتعلم لغات جديدة، أو لقراءة أكبر عدد ممكن من الكتب، أو لعمل نظام غذائى صارم، أو لنسافر إلى أكبر قدر ممكن من الأماكن. المهم أننا نود  أن نعتصر السنة كلها فنخرج منها بأكبر قدر ممكن من الاستفادة.

وكأننا في سباق مع أنفسنا، ومع الآخرين، بل مع الحياة نفسها. نريد أن نحصل على كل شيء ممكن، ونحقق كل شيء ممكن، ونصل إلى كل شيء ممكن؛ لذلك فإننا نخطط لكل شيء ممكن. ونظل نجري ونجري في ذلك السباق، ولا أظن أن هناك أحدًا يظن أنه وصل على الإطلاق؛ فلكما أنجزنا شيئًا أو وصلنا لمرحلة معينة في ذلك السباق، ننظر لما لم ننجزه، ونلوم أنفسنا على تباطُئها وعلى رخاوتها. ونتعهد على خوض السباق مجددًا ومجددًا، غير عابئين بشيء إلا بأن نفوز. والكارثة في عصرنا ألَّا أحد يفوز، ولا أحد لديه تعريف ما هو شكل الفوز أصلًا، كل ما نصدق فيه هو أننا متأخرون على الدوام.

وفى خضم هذه السباق المحموم ننسى، ننسى كل شيء، ننسى أولوياتنا، ننسى أن نتساءل عن السبب الذي لأجله نجري، ما الذي يجعلنا مندفعين هكذا؟ وننسى أن نتساءل عمَّا إذا كنا نريد أن نخوض هذا السباق من الأصل، ننسى كل شيء، وأهم شيء ننساه، هو أن نحيا.

لا أرى الحياة سباقًا، لكني أراها كميلونجا \ Milonga. الميلونجا هو نوع من الرقص الأرجنتينى، وهو أيضًا لفظ يطلق على حدث رقص التانجو Tango Night . في تلك الليلة يجتمع الناس حتى يرقصوا التانجو، وتستطيع فيها أن ترقص مع نفس الشريك/الشريكة لعدة مقطوعات متتالية، أو تستطيع أن ترقص في كل مرة مع شريك/شريكة مختلف، تستطيع أن تظل ترقص طوال المدة، أو ترقص قليلًا وترتاح قليلًا وربما تتحدث مع صديق قليلًا، وربما تستمتع بمشاهدة إبداعات الناس المختلفة في الرقص قليلًا. في كل الأحوال لا يجب عليك أن تفعل شيئًا محددًا، حتى الرقص نفسه، تجد نفسك ترقص بشكل مختلف مع اختلاف وتيرة الموسيقى أو نوعها، مع اختلاف الشريك، وأحيانا كثيرة مع اختلاف ما تشعر به في تلك اللحظة. وكأنك في كل مرة تؤلف رقصة خاصة بك أنت وشريكك فقط، ليس لها علاقة بمن يرقص بجانبك، ولا بمن يشاهدك؛ فقط أنت، وشريكك، واللحظة الحاضرة، والموسيقى في الخلفية، وإحساسك بها وبشريكك.

في الميلونجا عادةً يسير الراقصون في دائرة عكس عقارب الساعة، يمكنك أن تلحظ اختلاف سرعات كل اثنين عن الآخرين؛ فعلى حسب إحساسهما بإيقاع الموسيقى تجد إيقاع رقصتهما يتشكل، في أوقات إيقاع سريع، وفي أوقات إيقاع بسيط، وفي أوقات أخرى قد تجد اثنين يستمتعان فقط بالوقوف والتمايل على نغمات الموسيقى. فيمكنك أن تستمتع بالرقص في كل الحالات لا شيء لازم أو مفروض. كل إيقاع مقبول في الميلونجا، ولا يشعر أحد أنه يجب عليه أن يلحق من يسبقه أو أن يفعل مثله؛ فكل تركيز الراقص هو على حدود قدراته، وكيف يوظفها بشكل مريح في الرقص.

في الميلونجا لا يوجد شيء اسمه رقصة كاملة، أو أحسن رقصة، أو أسرع رقصة أو حتى أجمل رقصة. فكل رقصة فريدة من نوعها، لا وجود للمقارنات أو للسباقات، فقط هناك الموسيقى، وهناك الاستمتاع بها. وبالتالي، لا يوجد شيء اسمه رقصة خاطئة؛ فالمعيار هو أن تكون الرقصة مريحة لك ولشريكك، وأن تكونا على تواصل دائم حتى وإن كنتما تسيران فقط على نغمات الموسيقى. أتذكر في مرة كنت أشاهد مدربي يستخدم مقشة في تنظيف جزء من الأرضية، بينما الناس يرقصون حوله، ثم فجأةً صار يراقص المقشة في مشهد ممتع ومضحك في نفس الوقت، فلم أرَ قط مقشة ترقص بتلك البراعة. بالطبع كان السر في مهارته واستمتاعه بما يفعل، حتى إن كان مجرد تنظيف الأرضية. تعلمت أنه طالما كنت منصتًا للموسيقى في الخلفية ومتواصلًا معها ومع نفسك؛ فإن الرقصة ستكون جميلة حتى إن كانت مع مقشة.

ولأن الجمال هو المعيار، لا الكمال ولا الإنجاز؛ فيمكنك على الدوام أن تخلق رقصة جميلة مهما كانت بسيطة وعفوية، طالما كانت تعبر عنك. يمكنك أن تخلق حياة جميلة ومرضية بالنسبة لك طالما كنت متصالحًا مع خطواتك الصغيرة والمبعثرة.

الحياة مليئة بأشكال وأنواع كثيرة من الرقص، فلتختر رقصتك بدون أن تقارنها بالآخرين. لا توجد نغمة موحدة يجب أن نرقص عليها جميعًا، ولا يوجد رقص بدون أن نتعثر في خطواتنا. قد يختلف شكل الرقصة وسرعتها وتعقيدها من مرحلة لأخرى، وقد ترقص قليلًا وترتاح قليلًا. تذكر التعثر في خطواتك لا يلغي جمال الرقصة، بطيء حركاتك لا يلغي جمال الرقصة.

لا أرى الحياة كسباق، بل كميلونجا. نستمتع فيها بخطواتنا بدون أن نكون مثقلين على الدوام؛ بأين سنصل أو متى سنصل.  نعطي أنفسنا الحق لترتاح، والحق في أن يختلف إيقاعها من وقت لآخر، وفي أن تتعثر في خطواتها، وفي أن ترسم ما يعبر عنها من خيوط وألوان بدون أن يكون هناك لون كامل أو إيقاع كامل.

بينما تخطط لتلك السنة، هل فكرت في أن ترقص مع الحياة، لا أن تتسابق معها؟

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب.

المقالة السابقةأيامنا ألوان
المقالة القادمةاشتراك سنوي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا