الحياة الضائعة في Scroll down: التعافي من مواقع التواصل

1342

أكثر من سبع ساعات قضيتها وأمي في عيادة طبيب المخ والأعصاب الشهير جدًا، في انتظار موعدنا. كان صغيري يبكي بعنف، فلم أصحبها في الدخول إلى هناك. ظللت في الخارج كي يتمكن الطبيب من الكشف عليها بهدوء، فقد ظلت تعاني لشهور حتى أقنعتها بزيارته لعله يعطيها جوابًا شافيًا بشأن ما يوجعها. لم تكد تدخل حتى خرجت سريعًا غاضبة الوجه. كنت أعرف أن ثمة ما ضايقها بالداخل، “مبصليش حتى”. لم أفهم حتى راحت تشرح: “الدكتور من ساعة ما دخلت لحد ما خرجت وهو باصص في تليفونه، وكان بيكلمني بضيق ونفاد صبر كأني داخلة أشحت”. نظرت حولي إلى كل هؤلاء البشر الجالسين منذ الصباح الباكر، على درجات السلم وعلى المقاعد غير الآدمية، بعضهم يعاني من أمراض عصبية شديدة، وآخرون لا يحتملون الانتظار لفرط الألم في أعصابهم، فشعرت بغصة وأنا أتخيله يعيد الكرة معهم أيضًا ويمرر وقت الكشف في Scroll down.

لم يكن هذا الطبيب الوحيد الذي يعاين مواقع التواصل بينما يحدثه المريض عن أوجاعه، الصيدلي كان يصرف لي الروشتة وعيناه لا تبرح الهاتف، أما في المواصلات فقد كان الجميع منحنين فوق هواتفهم يمررون الصفحات لأسفل “Scroll down” مرة بعد أخرى، ليروا ما فاتهم، ثم يجددون الصفحة الرئيسية ويعيدون الكرة من جديد.

الحقيقة المرة

كدت ألوم على الطبيب حين وجدتني أحدث ابني وعيني على الصفحة الرئيسية لفيسبوك، أرى تلك الصديقة التي تروي عن ابنها الجميل ومواقفه الطريفة. كنت أكتب بدوري منشورًا عن ابني الذي لا أنظر إليه حتى. مقارنة سريعة، بين حيوات كثيرين ممن أعرفهم عن قرب، وصفحاتهم على مواقع التواصل، وحالاتهم التي يجري تحديثها باستمرار، أستطيع القول إن ذلك الذي نقضي أوقاتنا الطويلة جدًا في قراءته أبعد ما يكون عن الواقع. نحن لا ننخدع فحسب بالصور البراقة والأحاديث الجذابة والشخصيات التي لا تحمل أخطاء، فهذا يؤثر بالتعبية عن درجة الرضا التي نشعر بها تجاه حياتنا ونفسنا، ما يساهم في انخفاض التقدير الذاتي ومن ثم مجموعة من الأزمات النفسية.

كلنا طبيب المخ والأعصاب الذي خذل أمي، نخذل من حولنا بدرجات، في كل مرة نسمع فيها الرجاء الشهير “سيب اللي في إيدك ده شوية” نخذل أحدهم بشدة، ولا نختلف كثيرًا عن الرجل الذي قبل الحصول على مقابل لكشف لم يقم به كما يجب، بسبب هاتفه وما يحمله من تطبيقات التواصل والـ Scroll down.

الزمن المفقود

“مفيش وقت، اليوم بيطير مبلحقش أعمل فيه أي حاجة، مسافة ما يبدأ مسافة ما ينتهي، اليوم مفيهوش بركة…”، مجموعة من الجمل التي تتكرر بأريحية حين يجيء وقت الحديث عن المنتج خلال اليوم، أو حين يأتي موعد السؤال الشهير: عملتي إيه على مدار اليوم؟

شعور بالضيق يتولد، وحالة من الإحباط وعدم الإنجاز تصل مع الوقت إلى مبادئ اكتئاب، لا نرغب في الاعتراف أن منشأه عملية التمرير المستمرة لأسفل “Scroll down” التي لا نكف عن القيام بها، على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، نخرج من واحد فندلف إلى آخر، وإن كان فيسبوك هو صاحب نصيب الأسد، حيث تشير التقارير إنه الموقع الأكثر استحواذًا على اهتمام المصريين وتفاعلهم خلال عام 2018، بنسبة بلغت 89% من إجمالي مستخدمي مواقع التواصل في مصر.

كم نقضي عبر مواقع التواصل؟

إجابة هذا السؤال مرعبة إلى الدرجة التي قد لا ترغبون في معرفتها، فمثلاً بحسب أبحاث حول الإنترنت عام 2018، تبين أن متوسط ما يقضيه الفرد في مصر عبر منصات وتطبيقات التواصل المختلفة، بلغ 3 ساعات و4 دقائق يوميًا. بدا لي هذا الرقم مخيفًا جدًا، حيث تعني ترجمته عددًا من الحقائق الصادمة.

إذا ما اعتبرنا أن إجمالي الوقت الذي نقضيه هو ثلاث ساعات وأربع دقائق فقط لا أكثر، فهذا يعني أننا نقضي تقريبًا 21 ساعة و24 دقيقة في الأسبوع، ما يعني تقريبًا أن الأسبوع ستة أيام وساعتين ونصف فقط. بمزيد من الحسابات والتقريب نجد أننا نقضي 1120 ساعة في السنة، أي 46 يومًا ونصف ممسكين بالهاتف! هذا الرقم يعني أن أكثر من شهر ونصف في السنة ليس ملكنا، أي أن عامنا الحقيقي قدره عشرة أشهر ونصف فقط!

الأرقام ليست مرعبة في مصر فقط، ولكنها كذلك في العالم كله، بحسب دراسة حول الوقت الذي ينقضي عبر مواقع التواصل، وجد أن النسبة تتزايد عامًا بعد عام على مستوى العام، لتقفز من 90 دقيقة عام 2012 إلى 153 دقيقة عام 2017. والنسبة في ازدياد!

الصورة تبدو أكثر رعبًا حين نعرف أن متوسط الوقت الذي يقضيه الإنسان في حياته ينصب في أمور رئيسية، فيقضي قرابة 26 عامًا و5 أشهر نائمًا و8 سنوات و4 أشهر يشاهد التلفاز، و6 سنوات و8 أشهر عبر مواقع التواصل، فيما يقضي أوقاتًا أقل في تناول الطعام والمقابلات العائلية والتنظيف والتسوق، باختصار أعمارنا تضيع أمام الشاشات.

اكتشف كارثتك الشخصية

على طريقة “السجائر ضارة جدًا بالصحة وتسبب الوفاة” يضع فيسبوك طريقة للمساعدة عن الإقلاع عن إدمانه، عبر مشاهدة الوقت الذي ينقضي عبر فيسبوك، حيث استحدث الموقع طريقة تساعد المستخدمين على معرفة الوقت الذي يقضونه عبر فيسبوك، كذلك الأمر مع بقية المنصات، حيث يمكن الاطلاع عل رسم بياني يوضح الوقت الذي قضاه المستخدم عبر تلك المنصات، من قائمة الخصوصية والإعدادت يمكن العثور على أيقونة ساعة وإلى جوارها جملة Your Time on Facebook، الخطوات بالتفصيل عبر الرابط. بتقدير أن مجموعة من الحسابات يمكن أن تكون كافية للإصابة بالذعر، لكن لا بأس.

لا يضيع الوقت فحسب

يرتبط الاستخدام المفرط لمواقع التواصل بمجموعة من المشكلات النفسية. مزيد من المشكلات ترتبط بالشهية واضطرابات تناول الطعام. كما أن الأشخاص الذين يقضون وقتًا أطول في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي هم أقل سعادة، والاستخدام المفرط لهذه التقنية يمكن أن يورث مشكلات، قد تصل في بعض الحالات إلى الاكتئاب وعمل حوادث، بل وحتى الموت أو الانتحار.

ماذا عن التبطيل؟

حياتي تضيع وأنا أمرر الشاشة لأسفل. انتابني هذا الشعور فجأة مع حالة من الضيق والغضب الشديدين، لكنني فجأة تذكرت كل هؤلاء الأصدقاء الذين أعلنوا فجأة أنهم سوف يغيبون لفترة عن مواقع التواصل. البعض ابتعد لـ40 يومًا، والبعض ابتعد لشهور وآخرون ليوم أو اثنين، لكن المفارقة أنهم كانوا دومًا يعودون!

بالنسبة لي اتخذت قرارًا حاسمًا، ليس بتوديع مواقع التواصل، لكن بتحجيمها. المسألة تختلف من شخص إلى آخر، لكن في حالتي مسحت التطبيقات من هاتفي، واكتفيت فقط بالمراسلات. وفر لي هذا الكثير من الوقت، ولم ألبث أن اكتشفت أن ثمة اختيارًا متاحًا عبر أجهزة أندرويد وآي فون لمستخدمي مواقع التواصل، أن يحددوا الوقت الذي يريدون قضاءه عبر مواقع التواصل، ومن ثم يبعث إليهم الموقع بتنبيه حين يتخطون الوقت المحدد، بحيث يذكرهم بإغلاق التطبيق.

باختصار

ليس هناك طريقة واحدة صالحة للجميع. البعض يرى أن من الأفضل قطع علاقته تمامًا عبر مسح الحسابات الشخصية الخاصة به، والبعض يظن أن تعطيل الحساب لفترة حل مناسب، فيما يكتفي آخرون بالخروج لوقت قبل أن يعودوا بوقت أقل. آخرون يمسحون التطبيقات من هواتفهم لتقليل الوقت الذي ينقضي. في كل الأحوال يبقى إدراك حجم الأزمة وحجم الوقت الذي نقضيه عبر مواقع التواصل عاملاً حاسمًا في الطريقة التي سنتعامل بها مع الأزمة، كل على طريقته.

اقرأ أيضًا: هل تسبب مواقع التواصل الاجتماعي التروما

المقالة السابقةهكذا أحببت العزلة
المقالة القادمةمسلسل you: العلاقة بين الحب والهوس والفرق بين الهوس والحب
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا