كيف تعرف المحتوى الجيد؟ هل برأي الدارسين والنقاد؟ هل بحجم أرباحه ومبيعاته؟ هل بصداه وكثرة متابعيه، أم بكل ما سبق؟ أم بلا شيء مما سبق؟ لا أستطيع أن أحدثك عن الصواب المطلق، ولكنني سأصرع رأسك عما أعتقد فيه أنا، المحتوى الجيد يدفعني للكتابة، يملأني برغبة في التعبير، يعيد رسم وترتيب الأحداث في ذهني، أنهيه ولا تنتهي معه الحالة التي وضعني فيها، وبعض المحتوى الجيد، أرغب بعد فترة في التعرض له ثانية. قد يجمع أغلبنا على شرط أن يشبهك المحتوى الجيد، يلامس حياتك اليومية أو يتقاطع معها، قد يجمع أغلبنا أيضًا أن المحتوى الجيد عليه أن يفاجئك، فإن توقعت الحبكة النهائية، فلن تنبهر. ولا نستطيع أن ننكر فئة بيننا تقتنع أن الفن رسالة ويجب أن يصحح فينا ويقوِّم سلوكنا. إن وضعت كل النقاط السابقة في قائمة، تجد أن مسلسل YOU يضع علامة صح، أمام جميع نقاط هذه القائمة، ويزيد عليها بعض التفاصيل.
الحبكة والحكاية
إن كنت محبًا مخلصًا لأفلام ومسلسلات القتلة المتسلسلين، تعرف كل خصالهم وطباعهم وعاداتهم التي تكشفهم في النهاية، فقد يثير “چو” بطلنا جنونك، فهو قاتل فوضوي، يقتل بشكل مختلف كل مرة، وبدون أي تخطيط مسبق، وفقط عندما تضطره الظروف -من وجهة نظره- للقتل. لا يجمعه بالقتلة المتسلسلين سوى حب جمع التذكارات، والشخصية الانطوائية الطيبة الهادئة، التي لا تتوقع منها قتل حشرة، فما بالك بيدين ملطختين بدماء العشرات.
“چو” دودة كتب، يعمل في متجر لبيعها، بينما تدخل محله فتاة تعجبه، فيقرر أن يعرف عنها المزيد. يبدأ الأمر ببحث سريع عبر الإنترنت، خطوة بريئة في ظاهرها يقوم بها الجميع، ثم لا تدرك متى تخطى الأمر حاجز التعقب المعتاد إلى حد التعقب الهوسي واختراق الخصوصية.
لمسلسل YOU طابع رومانسي أصيل، يذكرك بتلك التفاصيل التافهة التي اعتدت على تكوينها مع أول حبيب لك، النكات التي لا يفهمها غيركما أحد، والأحاديث المطوّلة التي تدور في رأسك وحدك، بينك وبين رغبتك المستميتة في تبرير كل أعلام الخطر الحمراء التي تراها في الطرف الآخر. الطريقة الخفية التي تذوب بها نفسك في نفسه وتكتسب بعضًا من خصاله، وتلفت نظرك الأشياء التي ستعجبه، كيف تفتقد التحدث إليه فتحدثه في نفسك وتبرر له أفعالك، تندمج في حبيب لك فترى الدنيا بعينيه دون قصد، تعرف إن كان معك كيف ستكون ردة فعله، وربما تسمع صوته في أذنيك يناديك بما كان سيقوله لو كان هنا، يهاجمه عقلك ويدافع عنه احتياجك الشديد للحب.
صوت “چو”، أفكاره، كلاب مشاعره التي تهاجم المنطق في رأسه بضراوة، الطريقة الخبيثة التي يغيرك بها الحب دون أن تدرك، الفزع الذي يبدو على عينيه عندما تخرج منه الأمور عن السيطرة، كلها أشياء علّقتني بالمسلسل، وصنعت له شخصية مميزة عن كل ما يشبهه من مسلسلات الأمراض النفسية والقتلة المتسلسلين والرومانسية.
سم مواقع التواصل
قد تظن أن مسلسلات كـblack mirror وMr. robot، قد قتلت الأمر بحثًا، ورسمت شكلاً موجعًا للصورة التي تسمم بها التكنولوجيا ومواقع التواصل حيواتنا، إلا أن كل تلك الصور، كانت تحتاج للمبالغة القصوى في الطرح، لدرجة تنفصل معها عن المسلسل، وتشاهده كخيال علمي بعيد التطبيق، فهي إما تحكي عن واقع موازٍ في زمن آخر، وإما عن إمكانيات متخصصة وعلم في حد ذاته، لا يتوفر لأي شخص حتى يسهل عليه اختراق حياتك وكشف تفاصيلك ومعرفة أدق ثغراتك.
على عكس YOU، فهو يحكي عن شخص يعرف عن التكنولوجيا كما تعرف أنت، ويستخدمها بنفس الطريقة التي تستخدمها بها، طريقة مسالمة وطبيعية في ظاهرها، حتى تكتشف مع الوقت كم كنت تعري نفسك على السوشيال ميديا يوميًا، وتتبرع بمعلومات عن حياتك الخاصة، تستبيحها بإرادتك.
اعتدت أن ألعب لعبة مع كل شخص يشاهد المسلسل بعدي، تدور حول الحلقة الأولى، الدقائق الأولى، كنت أنتظر حتى أرى متى سيبدأ الشخص في رفض سلوكيات “چو”، من كثرة ما كان “چو” طبيعيًا وقابلاً للإسقاط على أغلبنا، يشبهنا ويتصرف مثلنا، بل ويتحول في لحظة للحب الذي يتمنى كل شخص أن يتلقاه من أحد، قد تسرح معه فتنسى الصواب من الخطأ، وتتسلل إليك أمراضه فتبدأ بتبرير مواقفه، واختلاق الأعذار له.
إن فعلت فلا تفزع على نفسك، فأنت واحد من ملايين متابعي المسلسل الذين أحبوا البطل، حتى بعد أن أبرز الموسم الثاني من المسلسل، كل ما يدفعك لكرهه، الأمر الذي دفع بطل المسلسل للقيام بحملات توعية، يشكر فيها الناس على حب المسلسل، ويعيد تعريف البطل على أنه قاتل ومختل، ويذكرك أن تكرهه.
النساء في YOU
الحلقة الأخيرة في الموسمين الأول والثاني، تعنيان لي الكثير، تخاطبان الأميرة الصغيرة في القطعة الداخلية من العقل الباطن لكل فتاة، كل فتاة، مهما اختلفت مستويات تعليمنا وترتيب أولوياتنا، كل واحدة منا تجلس على ركبتيها في نهاية القصة، تحملق في سقف الغرفة وتسألها نفسها: كيف وصلتِ إلى هنا؟ كيف فعلت بنفسك هذا؟
النساء في YOU لسن جميلات وحمقاوات، مثاليات وناعمات وضعيفات، كما هي الحال في أغلب أنواع الدراما، بين “بيك” و”كارين” و”لاڤ” و”كانديس”، ستجدين واحدة تشبهك، أو على الأقل ترتكب واحدة من حماقاتك. لكل واحدة فيهن حكاية، هدف تسعى خلفه، طريقة تعيش بها وتحب بها، ومدخل مختلف لقلبها ومشاعرها، النساء في المسلسل لسن ضحايا ضعيفات لا حيلة لهن ولا دور غير الوقوع في الفخ، بل ضحايا محاربات، وحتى مجرمات، لا يشبهن القطط الأليفة التي ترسمها أغلب أنواع المسلسلات التي يكون بطلها شخصية معقدة التفاصيل كما هي الحال هنا.
تفاصيل عن المسلسل
المسلسل مأخوذ عن سلسلة روايات تحمل نفس الاسم في الموسم الأول فقط، بينما يدعى جزؤها الثاني hidden bodies. عُرِض الموسم الأول من المسلسل في ٨ سبتمبر ٢٠١٨، والثاني بعدها بعام في آخر ديسمبر ٢٠١٩، بينما يتم الآن تصوير الموسم الثالث، ويبدأ عرضه عام ٢٠٢١.
اقرأ أيضًا: سالمونيللا أو You أو كيف تجعلك الميديا تتعاطف مع الجاني