حسب التوقيت المحلِّي

294

 

كتبه: محمد فوزي

 

  •   رأس السنة بين الماضي والحاضر

في روما القديمة، اعتاد الرُّومان -بالرغم من صراعاتهم الطاحنة وسلوكيات الاستعباد والطبقية-؛ على الاحتفال جميعًا بيوم، أسموه عيد “ساترناليا”؛ والذي يرمز إلى الإله “ساترن – Saturn”. وهو إله البذور المسئولة عن زراعة طعام الجميع، في يوم السابع عشر من ديسمبر من كل عام.

ولم يكن الرومان فقط، ولكن أيضًا شعب المايا القديمة كانوا يحتفلون بعِيدٍ في نهاية السنة يُسمَّى “كاتون” في منتصف ونهاية العام، وكذلك المصريون القدماء كانوا يحتفلون باكتمال العام بعيد “وبت رنبت”، وغيرها الكثير. والمُلاحظ، أن هذه الأعياد اتفقت في صفة غريبة؛ وهي الإحتفال بـ “نهاية العام”، والذي يُعرف في وقتنا الحالي باسم “عيد رأس السنة”.

ولكن لماذا يهتم الإنسان -منذ بداية الحضارات- بالاحتفال بذلك اليوم تحديدًا؟ ولماذا تتحول المجتمعات فجأةً في ذلك اليوم إلى مجتمعات مُسالمة، تتساوى فيها مظاهر السعادة على الجميع؛ كقطيع من نمل يحتفل بالحصول على حبّات الأرز؟!

الإجابة هي أن كل تلك الاحتفالات -رغم اختلاف تواريخها حسب المجتمع- كانت توافق موسمًا؛ إما الحصاد أو الزراعة، أيْ أنها -بتعبير زمننا الحالي- مرتبطة إما بالاحتفال بإنجازات العام السابق أو الاحتفال بأمنيات العام القادم.

وهو الأمر الذي تسرَّبَ إلى الوعي الإنساني من الصيغة الاجتماعية إلى الصيغة الفردية والشخصية. وأصبح كل مِنَّا ينتظر يوم “رأس السنة” من أجل تقييم إنجازاته على مدار العام، وتحديد أمنيات وأهداف العام الجديد. حتى تحوَّلَ الأمر إلى عادة نفسية، وإدمان بمواعيد تقييم الإنجازات، وربط الرضا النفسي والسعادة بالنجاح أو الحزن للفشل بتحقيق تلك الأهداف خلال فترة محددة.

وكأنَّ الإنسان اعتاد على تأجيل “السعادة” و”الرضا” إلى يوم مُحدَّد؛ وهو يوم رأس السنة -على سبيل المثال-. وبالتالي قام بتحويل السعادة من رد فعل شعوري لحدث حالي، إلى شعور مستقبلي مشروط بوعود مُعدَّة سابقًا، ومحددة بميعاد معين. أيْ أنه وضع تعريفًا جديدًا لرحلته الإنسانية يُمكن تسميتها بـ “Deadline” للسعادة.

 

  • Deadline للسعادة

ما هو تعبير الــ”Deadline”؟ ربما نعرفه جميعًا من خلال حياتنا العملية، وربما الدراسية؛ فهو الميعاد المحدد لتسليم أو إنجاز عمل مُعيَّن، والمرتبط بالثواب والعقاب. فإذا وافقَ إنجازنا العمليّ ذلك الميعاد؛ فالنتيجة هي الثواب، وإذا تأخرنا عنه أو خالفناه؛ فهو العقاب!

ربما يكون ذلك التعبير مفيدًا في سوق العمل، للحفاظ على الالتزام المهني مع الشركاء والعملاء، ولضبط سَيْر المشروعات والأعمال المعقدة التي تعتمد على أطراف متعددة، فهو لتنسيق المهام والحصول على نتائج مُرضية في وقت محدد بما يُساعد على تقدم المجتمعات.

ولكن. كعادة الإنسان، قام ذلك الكائن الرائع بمَسْخ ذلك التعبير وتحويله من معناه العملي والجمعي المفيد، إلى معنى وعادة إدمان شخصية خطيرة؛ فبدأ في تقييم إنجازاته الكبرى، وربط شعور السعادة والرضا بذلك الميعاد، واشترط على نفسه النجاح الكبير .. وإلا .. فاللعنة على ما ضاع من أيام خلال تلك السنة، واللعنة على انعكاس صورة ذلك الفرد في المرآة.

 

  •   ولكن لماذا يجب أن يكون النجاح كبيرًا؟!

الأمر مرتبط بالميراث الإنساني القديم؛ فنهاية السنة -أيًّا كان التاريخ- هي إما موسم حصاد أو موسم زراعة، وهي أشياء كبرى جمعت الأفراد المختلفين حول هدف واحد يستحق الاحتفال. ومن خلال اللاوعي الجمعي الناتج عن توارث العادات القديمة، ارتبط بذهن الإنسان أنَّ ما يستحق الاحتفال لا بد وأن يكون شيئًا ضخمًا، نجاحًا كبيرًا، إنجازًا لا نظير له، يراه الجميع ويعترفون بضخامته!

وعند دمج تلك العادة المتوارثة من اللاوعي الجمعي، مع ظلامات النفس باللاوعي الشخصي وعدم الاكتفاء، يُصبح الرضا عن النفس وكذلك الصورة الذاتية؛ أمورين مشروطين داخل إطار ضيق من أحكام جلد الذات، وسلوك اللهاث وراء النجاح، مهما كان الثمن؛ والمقارنات مع نجاحات الآخرين، والمُزايدة على القدرات الشخصية، وإرهاق عام للطبيعة الإنسانية.

والأهم سوء تقدير حجم الإنجازات الشخصية، وإهمال الاحتفال بالإنجازات الصغيرة -التي لا توافق شرطًا ما يستحق الاحتفال-. وتكون النتيجة هي رحلة لمُطاردة سعادة مؤجلة لن تأتي على الإطلاق، والتقلب على حطب الانتظار اللانهائيّ. والنتيجة؟ .. تعاسة دائمة، وركض لانهائي وراء سراب لشعور مستحيل المنال، كقطٍ يُطارد ذيله!

 

  • برمجة حجريَّة

بالفعل، القط يُطارد ذيله، وهو لا يعلم أنه جزء منه؛ فالسعادة بداخلنا، ولكننا نبحث عنها بالخارج. وقمنا بتحويلها من حالة نفسية ذاتية إلى شرط ماديّ ملموس، وهو أمر لم يعرفه من يُطلق عليه “الإنسان الحجري أو البدائي”.

فالإنسان الأول كان يعلم جيدًا أن كل إنجاز صغير يستحق الاحتفال؛ فالحياة ليوم جديد تستحق الاحتفال، وإعداد وجبة طعام شهيَّة تستحق الاحتفال، وسعادة الجار عندما نقدم له المساعدة؛ هو شعور بالإيثار يستحق الاحتفال، ورؤية الحبيبة في كل مرة أمر يستحق الاحتفال، ورسم الابتسامة على وجه الأم هو مشهد يثير الاحتفال، وإضحاك طفل صغير لحظة هي تستحق الاحتفال، والانتهاء من يوم عمل صعب لهو شيء يستحق الاحتفال.

والأهم أن السعادة لم تكن حينها مرتبطة بشروط معقدة متداخلة، يعتمد بعضها على الآخر. ولكنها كانت شعورًا حاليًا عفويًا غيرَ مُعدٍّ، بل كان الاحتفال هو الشيء المُعد. ومراحل إعداد الاحتفال بإنجاز ما -حتى ولو كان صغيرًا- هو في حد ذاته سعادة.

لذلك، يجب برمجة عقولنا ونفوسنا على فكرة السعادة الداخلية، وجعلها قرارًا ذاتيًا غير مرتبط بالشروط المادية أو بالبيئة المحيطة، يجب أن نعود إلى فطرة الإنسان الحجري، بل وهندسة عناصر النفس بالعمد على عادة السعادة والاحتفال، بدون وضع ميعاد محدد لذلك الشعور.

فليكُنْ احتفالنا بإنجازاتنا الصغيرة منفصلًا عن المواعيد التي توارثناها تاريخيًا؛ بل يكون احتفال كل منا “حسب التوقيت المحلي” لنفسه وذاته.

 

المصادر:

Ancient Holiday Celebrations | Discover Magazine

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةحفلة خصوصي
المقالة القادمةبتقدر تدوق السعادة؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا