تانجو الحياة 

2230

 

كتبه: رفيق رائف

 

“لا توجد أخطاء في التانجو يا عزيزتي،

ليس مثل الحياة،

هذا ما يجعل التانجو رائعًا،

إذا أخطأتِ وتعثرت خطواتك، فقط أكمليْ رقصتك (just tango on)”.

 

هذا ما قاله “الباتشينو”، فى الفيلم الرائع “scent of a woman”، للبطلة عندما رفضت أن ترقص معه التانجو. “أخاف أن أقوم بأخطاء”، هكذا قالت. فأجابها بتلك الجملة البديعة، بعدها قاما برقصة باهرة، تخطف القلب والعقل في انسيابيتها وعفويتها.

كنت قد بدأت الاشتراك في مجموعة للتدريب على رقص التانجو منذ بضعة أشهر. أول شيء تتعلمه هناك هو أنه “لا وجود لشيء اسمه خطأ في التانجو”، فكل الحركات صحيحة، ويمكنك تكملة الرقصة من أيَّة خطوة أنت فيها. كل خطوة يمكنها أن تؤدي لمئات الخطوات الأخرى. لا يجب عليك أن يكون لديك مخيلة عن كل خطواتك حتى نهاية الرقصة، فقط لا ترتبك واختَر، خطوتك القادمة، واترك الموسيقى وتواصلك مع الشريك الآخر يطوفان بك للخطوة بعدها.

لم يُمكني أن أدرك تلك الحقيقة لآخرها في البداية. فأجد نفسي دائمًا أبحث عن ما هو “المفروض أن يتم”، وما هي “الرقصة الصحيحة”، وما هي “الخطوات اللازمة لإتمامها”. كل هذا يدور في عقلي بينما أرقص، وأجدني خائفًا من أن أفشل في خطوة أو أتعثر مع شريكتي. والخوف يجعلني متوترًا، والتوتر يجعلني أخطئ أكثر، فأتوتر أكثر، فأخطئ أكثر… وهكذا.

شيئًا فشيئًا، بدأت أدرك أن سر جمال الرقصة هو في الانسيابية والتناغم بين الراقصين، وليس في دقة الخطوات أو صحتها. لا توجد رقصة صحيحة أو رقصة خاطئة، بل ما يجعل الرقصة ممتعة للراقصين ولمن يشاهدهم؛ ليس انعدام الأخطاء، ولكن كيف يتعامل كل طرف مع خطوات الآخر كما هي، كيف يلتقطون خطواتهم المتشابكة وينسابون مع النغمات التي يرقصون عليها.

في التانجو، إذا تعثر أحدهما، لا يتوقف الاثنان عن الرقص، ولا يجلد أحدهما الآخر على تعثره؛ إنما يكمل على الخطوة التى اتخذها الآخر، أيا كانت. وكأنَّ الأخطاء هي جزء طبيعي من الرقصة، وليست خارجة عنها. وكأنَّ -أيضًا- هناك قبولًا لحقيقة أنك إذا أردت أن ترقص، فلا بد لك أن تخطئ؛ ليس المهم ألا تخطئ، لكن المهم أن ينفتح قلبك ووعيك لتكمل الرقص بالرغم من أخطائك.

كالعادة، يبدو الكلام جميلًا، بينما الاختبار العملي يحوي تحديات وصعوبات في حد ذاته. بعد أن يشرح لنا المدرب بضعة خطوات، يطلب منا اختيار شريك / شريكة للتدرب على تلك الخطوات. وبمجرد أن نبدأ، أجدنى أتوقع من نفسي أن أقوم بالخطوات مثلما قام بها المدرب صاحب خبرة العشرين عامًا في التانجو .. لا أسمع الموسيقى، ولا أشعر بشريكتي في الرقص، ولا أشعر حتى بجسدي؛ كل ما أفكر فيه هو كيف أقوم بالخطوات بشكل صحيح، وعندما أتعثر ألوم نفسي جدًا، وأعتذر لشريكتي بشدة، فأجدها تبتسم قائلة: “لا بأس، Its ok”.

لكن تلك الجملة -رغم بساطتها-، لا تنجح في الدخول من الحصون التي نسجها الخزي حول قلبي؛ فلا أرى شيئًا سوى تعثري، ولا أركز على شيء سوى ألَّا أتعثر ثانية. وكلما توقف عقلي عند أخطائي؛ لم يستطع استيعاب أي شيء آخر، فيتعثر مجددًا ومجددًا. وطالما صرت أطالب نفسي بالكمال، طالما صرت غير راضٍ وغير مستمتعٍ بأي شيء، حتى الرقصة الجميلة لا أستمتع بها.

تنطبق تلك الأفكار، ليس على رقص التانجو فقط؛ بل أيضًا على الحياة، على العلاقات مع الآخرين، وعلى العلاقة بأنفسنا أيضًا. عادةً ما نتوقف عند أخطائنا ولا نرى أي شيء آخر غيرها. نلوم أنفسنا ونقسو عليها وكأننا نتوقع منها الكمال في كل شيء، وكأن أخطاءنا غريبة على البشرية كلها، وكأننا الوحيدون الذين نخطئ. وكلما طالبنا أنفسنا بالكمال وصرنا نتوقعه منها؛ زاد خوفنا من اتخاذ الخطوات. وكلما زاد خوفنا من التجربة؛ زاد خوفنا من الفشل أو الخطأ. وبالتالى، كلما صرنا أقل قابلية للتعلم من أخطائنا؛ صرنا أقل خوفًا من رقصة الحياة.

إذا ما أخطأت في شيء، أسارع في إلصاق ألقاب مثل “فاشل”، “مهمل”، “سيء”، “غبى”. وأشعر بالإحباط وأتوقف عن المحاولة مجددًا. غافلًا عن أن التعثر والأخطاء جزء أساسي في الحياة. لا يمكننى أن أرجو من نفسي -وبالتالى من الآخر- انعدام الأخطاء، لكن يمكنني أن أسعى حتى يكون عندي مرونة نفسية تمكنني من التعامل مع أخطائي والتعلم منها، تلك المرونة التي تمكنني من مواصلة الحياة والاستمتاع بها بالرغم من إخفاقاتي. أن أكون ممتنًا لخطواتي الصغيرة في التغيير، وأظل أحاول التعلم والتعلم حتى أتقن خطواتي أكثر وأكثر.

يتجلى حب الإنسان لنفسه، ليس في إنكاره لأخطائه أو هروبه منها؛ لكن في قبوله لها، وفي اعترافه بمحدوديته. أن يحاول الإنسان مرةً بعد مرة دون أن يرى نفسه من خلال أخطائه، أن يمتن لمحاولاته بدلًا من أن يجلد نفسه على أخطائه، وأن يدرب عينَيْهِ على أن ترى خطواته الصغيرة وألَّا يتوقعَ أن يتغير ويتعلم كل شيء في يوم وليلة.

يا صديقي، لا ترَ نفسك شيطانًا مليئًا بالأخطاء، ولا إلهًا منيعًا ضد الأخطاء. فلترَ نفسك فقط إنسانًا، يحاول بقدر استطاعته، يخطئ أحيانًا، وينجح أحيانًا أخرى. وإذا تعثرت، قل لنفسك: “لا بأس، هيا نحاول مجددًا”.

 

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةالخوف .. ضيف ثقيل ولا صاحب ملازم؟
المقالة القادمةتحب تسمع ايه؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا