تشتعل السوشيال ميديا مؤخرًا بالحديث عن التحرش والمشكلات التي تواجهها المرأة في مجتمعنا، لمجرد أنها تجرأت وجاءت إلى الحياة، فتيات وسيدات كثيرات تجرأن وحكين عن الحوادث التي تعرضن لها، والتحرش الذي اعترض حيواتهن سواء في الشارع أو المواصلات أو داخل المنزل نفسه، من الأقارب أو في أماكن العمل، وحتى على وسائل التواصل الاجتماعي، تتعرض المرأة للتحرش في كل مكان، كل مكان هو محيط غير آمن إلى أن يثبت العكس، مأساة حقيقية.
السكوت عن التحرش جريمة
تؤكد الدراسات أن التحرش الجنسي لا يؤثر فقط على جودة الحياة، ويصيب النساء بالقلق واضطرابات النوم، ولكنه أيضًا يؤثر على كفاءة العمل والدراسة، ويقلل من فاعلية المرأة التي تتعرض للتحرش الجنسي بشكل عام
ما يعمق المأساة أكثر هو عدم تفهم المحيطين لما يسببه التحرش من مشكلات حقيقية، تجد أصواتًا هنا وهناك تدعي أن الأمر أصبح زائدًا عن الحد، وأن ما يحدث لا يستدعي كل هذه الدراما، وأن تناسي ما يحدث هو الحل الأمثل، وأن التحرش يختلف عن الاغتصاب ويمكن تخطيه بسهولة، ولا داعي لكل هذه الجلبة، نفس هذه الأصوات سوف تسمعها في الشارع لو حاولت أي فتاة أن تستصرخ طالبة مساعدة من حولها لو تحرش بها أحدهم.
كلمات مثل “معلش يا أبلة، خلاص بقى، أديكي شتمتيه وخدتي حقك، مفيش بنت محترمة تضرب راجل، بلاش تفضحي نفسك خلاص الموضوع خلص، هو كان عملك إيه يعني”، معتادة وتعتبر عاملاً مشتركًا أساسيًا في كل حوادث التحرش تقريبًا، ما لا يعرفه هؤلاء أن للتحرش فعلاً عواقب وخيمة، والحوادث التي تسكت عنها الفتيات تساهم بضراوة في تخريب حيواتهن، والسكوت ليس طريقة فعالة لتفادي هذا التخريب.
تعرفي على: صحة المرأة: 10 حاجات لازم تعمليها عشان نفسك
اضطراب القلق وعلاقته بالتحرش الجنسي
تشير الدراسات النفسية أن النساء اللاتي يتعرضن للتحرش الجنسي هم عرضة أكثر للإصابة باضطراب القلق والاكتئاب، وتؤكد الدراسات أن التحرش الجنسي لا يؤثر فقط على جودة الحياة، ويصيب النساء بالقلق واضطرابات النوم، ولكنه أيضًا يؤثر على كفاءة العمل والدراسة، ويقلل من فاعلية المرأة التي تتعرض للتحرش الجنسي بشكل عام، أيضًا يؤثر على حياتها الجنسية ويصيبها باضطرابات تتعلق بالثقة وتقبل الذات.
ولو كان الكلام العلمي الموثق لا يحظى بالاحتفاء الكافي في مجتمعنا، ويصفه معظم الناس بتهويل الدكاترة. دعني أصحبك في جولة داخل نفسيات نساء حقيقيات تعرضن للتحرش، ونتيجة لذلك تعرضت حيواتهن الخاصة لمشكلات كثيرة، بعضها تطلب تدخلاً علاجيًا، وبعضها فشلت كل الطرق في تداركه ونجح في تخريب الحياة تمامًا.
تأثير التحرش على العلاقة الزوجية
تزوجت حين كانت تبلغ نحو ثلاثين عامًا، وتزوجت رجلاً يكبرها بكثير، لأنها لم تستطع الوثوق في أي ممن يماثلونها سنًا. بعد الزواج بعام ونصف تقريبًا وقع الطلاق، لم يكن أحد يعرف السبب الأساسي وراء طلاقها، وكانوا يعزون ذلك لفارق السن الكبير بينهما، وأنها أخيرًا أدركت خطأها وعرفت أنها ما كان يجب أن تتزوج بهذا الفارق الكبير في العمر، وعندما عرفوا أنها لا زالت عذراء تأكدت شكوك الجميع، وألقى الجميع باللوم على الزوج الذي لم يعي قدراته جيدًا وظلمها معه.
الحقيقة التي لم يعرفها أحد، والتي أسرت بها لاحقًا لصديقتها المقربة أن الرجل مظلوم، وأنه تحمل لوم الجميع فيما كانت هي التي ظلمته، فهي لم تستطع أن تنجح في إقامة علاقة جنسية معه، وظلا طوال عام ونصف يحاولان معًا أو بمساعدة الأطباء في ألا تصاب بتشنجات ما أن تبدأ العلاقة وفشلا تمامًا، فتم الطلاق.
بالعودة عدة سنوات إلى الوراء، نصف عمرها تقريبًا، نعرف لماذا أسرت بهذا لصديقتها بالتحديد، هذا لأن هذه الصديقة كانت شاهدة على التحرش الذي كانت تتعرض له هذه الفتاة من أخيها داخل منزلها، تحت أعين والدها الذي تصرف وكأنه لا يعرف أي شيء، ووالدتها التي تعاملت مع الموقف وكأنه غلطة عادية، وعاقبت أخاها بالحرمان من المصروف مرة واثنين، حتى يأست منه فتجاهلت الأمر تمامًا.
تبدو القصة مأساوية تمامًا وغير قابلة للتصديق؟ حسنًا، ما رأيك في قصة أخرى؟ عن فتاة أخرى فقدت وعيها ليلة الدخلة وكل ليلة لمدة أسبوع في كل مرة يحاول فيها الزوج إتمام العلاقة. لم يكن زوجها نبيلاً كنبل الزوج في القصة الأولى، فتدخل الأهل وحاولوا تهدئة الموقف ومعرفة لماذا تبكي العروس، هل تخاف أن ينفضح أمر ما، أم أنها مجنونة فقط؟ وفي الحقيقة العروس لم تكن معيوبة ولم تكن مجنونة، هي فقط كانت صغيرة السن ولم تستطع أن تتخطى حادثة تحرش حدثت لها وهي مراهقة، عندما فتح لها أحدهم سحاب سرواله وأسمعها كلامًا لم تستطع تحمله فصرخت، وعندما صرخت تعدى عليها بالضرب متهمًا إياها بأنها “بترمي بلاها عليه” وخلصها من يديه المارة وتركوها تمضي مشيعينها بكلمات مثل “روحي لحالك ربنا يهديكي”.
قصة مأساوية أيضًا، حسنًا، عندي قصة ليست مأساوية جدًا، امرأة متزوجة وأم لا تستطيع النوم منذ اشتعلت السوشيال ميديا بالحديث عن التحرش، ترفض أن يلمسها زوجها الذي تحبه بجنون، وتبكي طوال الوقت لأنها تذكرت كل ما تعرضت له من تحرش، وترفض الحديث عن هذا الذي تعرضت له ويضعها تحت كل هذا الضغط.
التحرش جريمة لا تسقط بالتقادم
ما سردته في الفقرات السابقة من حوادث ليس هو كل ما أملكه من قصص، لديَّ قصص بعضها أكثر مأساوية، ولكن المجال لا يتسع لذكرها هنا. الشاهد من كل هذه القصص توضيح أن جريمة التحرش لا تسقط بالتقادم، هو ليس موقف حدث وانتهى وانتهت تبعاته، بل هو جريمة حقيقية تترك آثارها على الضحية وتسرق من عمرها وسعادتها بل ومن صحتها العقلية، وتكنيك دفن الرأس في الرمال لم يعد صالحًا، خصوصًا مع الأجيال الجديدة.
الأجيال التي انفتحت على العالم وتعرف معنى السعادة والحرية وتعرف حقوقها، هذه أجيال لا يستطيع السكوت أن يداويها، هذه أجيال تعرف أنها لا يجب أن تعيش خائفة أو معقدة أو موصومة، ولذلك تتصادم كثيرًا مع مجتمع اعتاد أن يتناسى مشكلاته حتى لا يضطر إلى حلها، الأمر الآن أصبح أكثر خطورة، العالم الآن يعرف أن هناك علاجًا نفسيًا، وأن العلاقات الجنسية يجب أن تكون ممتعة، وأن جسد المرأة لا يجب إهانته، فتيات يرِدن الحياة بلا قلق وبلا ازدراء للعلاقة الجنسية، بناء على خبراتهم السيئة مع التحرش، ورجال يريدون عيش حياة طبيعية مع زوجات لا يصيبهن الاضطراب كلما تلامسن معهم.
الاعتراف بأن التحرش جريمة حقيقية ولها آثار كبيرة وخطيرة هو أول خطوة من خطوات عيش حياة صحية. العلاج من آثار التحرش والحديث عنه ليس “دلع” وليس “تريند” ولا تفعله النساء للفت الأنظار، بل يفعلنه حتى يتحررن من ثقل الألم، فلو لم تكونوا سببًا في مساعدتهن، على الأقل كفوا عن لومهن على الحديث.
اقرأ أيضًا: التحرش والاغتصاب في مصر: رعب نعيشه كل يوم