الله وأنا والآخر

784

 

كتبته: سارة سكر

هناك بعض الأفكار التي تعلَّمتُها، والتي لا يمكنني تخيل كيف كانت حياتي ممكنة السير بلاها. أعتقد أني سأعيش لبقية عُمري؛ وأنا ممتنة لدخولها عقلي في أوقات مبكرة نسبيًا من حياتي.

من هذه الأفكار فكرة بسيطة ومشهورة، أتذكر يوم سمعتها لأول مرة، وأتذكر أيضًا مرات ليست بقليلة فيها شاركت بها غيري. الفكرة معروفة بنموذج نافذة جوهاري (Johari Window model)، وهو نموذج بسيط يعلم الناس ويساعدهم لفهم علاقاتهم بأنفسهم، وبمن حولهم بصورة أفضل. أتذكر ذلك المُحاضر الذي سمعت الفكرة منه لأول مرة، ورسمه هذا النموذج أمام الحاضرين.

 

نافذة جوهاري (Johari Window model)

ببساطة –ويمكنك القراءة عنه أكثر– هو رسم لمربع مقسم لأربعة مربعات في شكل يشبه زجاج النافذة:

  • المربع الأول: يسمى المنطقة المضيئة أو المفتوحة (Open area).
  • المربع الثاني: يسمى المنطقة العمياء (Blind area).
  • المربع الثالث: يسمى المنطقة المخفية (Hidden area).
  • المربع الرابع: يسمى المنطقة المجهولة (Unknown area).

 

تفاصيل نافذة جوهاري

1- المنطقة المضيئة أو المفتوحة

والتي تحتوي على ما أعرفه عن نفسي، وما يعرفه الناس من حولي عني. مثلًا: اسمي، مهنتي، عائلتي، بلدي، وغيرها من أمور لا تحوي من الغموض أو السرية شيئًا.

2- المنطقة العمياء

هي المنطقة التي تقع بها أشياء لا أعرفها أنا عن نفسي، لكنها معروفة لمن حولي. مثلًا كلام الناس عني في ظهري، آرائهم فيَّ أو في أفعالي، ما يقولونه عني في المجالس التي أغيب عنها. مثلًا: رأي الموظفين في مديرهم الذي يحرصون ألا يصل إليه. هذه هي المنطقة العمياء في هذا المدير.

3- المنطقة المخفية

يقع بها ما هو معروف عندي، لكنه غير معروف لمن حولي. مثل الأسرار والخبايا التي أحتفظ بها لنفسي. ليست بالضرورة أفعالًا قمت بها أو أحداثًا حدثت بإرادتي أو غصبًا عني. لكنها قد تكون أفكارًا سلبية عن نفسي، أو عن بعض الأشخاص في محيطي، أو مشاعر ثقيلة أشعر بها نحو مواقف معينة، أحاسيس خزي وعار وغيرها. أمور أضع عليها يافطة (لا للنشر). أحميها برُوحي مُخفاةً تمامًا عن أنظار الجميع، وفي أحسن الحالات يعرفها قلة قليلة من الدائرة المقربة جدًا. ولكنها تبقى منطقة محظورة، أرضًا مقدسةً لا أسمح للأقدام بدوسها.

4- المنطقة المجهولة

هي التي لا أعرفها، ولا أحد ممن حولي يعرف عنها شيئًا. أمور لا يعلمها إلا الله كُلِّيّ العلم وحده. مثلًا: أمور حدثت في الماضي لا أذكرها، أو أمور حتى قبل أن أجيء للدنيا؛ في حياة آبائي أو أجدادي مثلًا أو من سبقوهم. أمور أثَّرت فيهم؛ وبتأثُّرهم بها أثروا هم أيضًا بسببها فيَّ، وأنا وهُم لا نعلم عنها شيئًا. أيضًا ما يحمله العقل اللاواعي -مثلًا- بالتأكيد لا أعرفه كله. وما سيأتي به غدًا وما سيحمله المستقبل لي. كلُّها أمور مجهولة تمامًا لكنها معروفة لدى خالقي الذي لا يخفى عنه شيء.

 

كبرت وأنا أتذكر هذه النافذة من وقتٍ لآخر. وكثيرًا ما فكرت في علاقاتي بحسبها. علاقاتي بمن حولي؛ ما سار منها بشكل جيد، وما سار منها بشق الأنفس؛ ما استمر منها، وما انتهى؛ ما انتهى بطريقة جيدة، وما انتهى بالوجع والخذلان. أيضًا علاقتي بنفسي، والتي مرت بتطورات وتغيرات ومواسم مختلفة عبر السنين منذ وعيت أن هناك ما يسمى علاقة بالنفس. لكن أيضًا علاقتي بالله خالقي وسبب وجودي، وسبب وجود أي تقدم يحدث في عقلي وأفكاري؛ بما يؤثر عليَّ وعلى علاقاتي بنفسي وبمن حولي وبه.

 

الإنسان كائن رُوْحي نفسي اجتماعي

نعم. فالإنسان كائن رُوْحي نفسي اجتماعي كما علمونا نظريًا. لكن ما تعلمته عمليًا في الحياة أنه من المستحيل الفصل بين هذه التكوينات. فعلاقتي بنفسي وبمن حولي وبالله علاقة متداخلة متشابكة، ومؤثرة في بعضها تأثيرًا واضحًا وضوح نور الشمس النافذ من زجاج النافذة؛ إذا سمحتَ له بالدخول وأزحتَ الستائر التي تمنع دخوله ووصوله لقلبي. فتغيرني وتغير من طريقة تفكيري في نفسي وفي الناس من حولي وفي الله أيضًا.

الله .. أنا .. الآخر دوائر متشابكة وممتدة

نعم. علاقتي بنفسي، وصورتي عنها، وطريقة تواصلي معها، وما أقوله لها؛ تؤثر جدًا في علاقاتي بمَن حولي. وعلاقتي بالله، وصورتي عنه، وطريقة نظرتي له وأفكاري عنه، وما أتوقعه منه؛ تؤثر جدًا في علاقتي بنفسي؛ التي تؤثر بدورها في علاقاتي بمَن حولي. وهكذا دوائر متشابكة وممتدة من التأثيرات اللامتناهية، والتي تحتاج لوعي فاحص وإدراك مستعد للتغيير.

وعندما أقول علاقة؛ أنا أقصد ما يتبع أي علاقة من تواصل وحوار واختلاف واحتياج للغفران والمغفرة. فما أقوله لنفسي وما أسمعه تقوله لي؛ سينعكس على ما أقوله لمن حولي وما أسمعه يقولونه لي. سواء قيل فعلًا أو فقط خيالي صوره لي. فعلاقاتي بمَن حولي وما يحدث بها صورة في مرآة لما يحدث بداخلي. وغفراني لمَن يخطئ في حقي انعكاس لغفراني لنفسي بعد استقبال غفران الله لي.

تشجَّعْ لفتح نوافذ حياتك، وشبابيك قلبك بمشاعره وعقلك بأفكاره. وحياتك كلها أمام الوعي والإدراك والاستعداد للتغيير. اترك ضوء المعرفة يتسلل من المناطق المضيئة والمفتوحة؛ لينير المناطق العمياء، بالحوار الحقيقي مع من حولك، والتواصل الفعال معهم، وتقبل النقد منهم؛ فينظف ويلمع المناطق المخفية، التي تراكمت فيها أتربة الإنكار وظلمة السريَّة بحوار بنَّاء مع نفسك، ورفض الأفكار المهيجة لكل خزي وتقوقع على الذات؛ فتتبدل المناطق المجهولة بعلاقة حقيقية مع الخالق لمناطق منيرة مشعة لك، ولكل من يتعامل معك.

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةلا تبصق فى الأشياء
المقالة القادمةالله والضحى

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا