الله والضحى

584

 

 بقلم: محمد فوزي – كاتب

الله يُحبّك

مرَّت طفولتي كلمح البصر، ولكني أذكر منها كلمات أبي وأمي، التي كانت تُساق إلى مسامعي يوميًا:

“الله يُحبّك. اغسل وجهك جيدًا في الصباح؛ فبذلك تكون قد “صبّحت” عليه. ادعُ وصلِّ له قبل النوم؛ فكأنك تعني بذلك تحيّته بـ”تصبح على خير يا رب”. ابسُط يدك إلى السماء حتى يداعب النسيم أناملك؛ فبذلك تعرف أنه يُسلّم عليك. تلصص من وراء انعقاد شيش نافذة غرفتك قبل الفجر؛ فربما تشعر بوجوده في ضياء القمر، أو صمت الجيران، أو حتى في تهادي ملابس “نشرتها” والدتك على أحبال الشرفة”.

الشعور بوجود الله لا يزال بريئًا فطريًا

لم تختلف تصوراتنا عن الإله بتقدم العمر، وأعني هنا وجدانيًا أو شعوريًا، ربما اختلف الوصف “اللفظي” فصار أكثر تعقيدًا وأكاديمية. ولكن .. الشعور ذاته بوجود الإله لا يزال بريئًا فطريًا؛ فلا يرجو أي منّا -مهما تقدم به العمر أو دمل قلبه- سوى ضمّة هنيئة وسكون بأحضان “ربنا”، وهمْس حانٍ حتى وإن لم يكن مسموعًا بعبارة “لا تقلق.. لا زلت أراك طفلًا.. ولن تجد مني هجرًا”.

شاهدت وراقبت على مدار سنوات أن العصا هي أداة تقويم الطفل، ويكون سُلطان الحُجّة هو أداة هداية البالغين.

ولكن مع الله .. انقلبت الآية؛ فالله في الطفولة هو الإله المُحب الذي يُجيب دعوات الامتحانات، ويسوق الهدايا إلى أعتاب الغرف الصغيرة، ويحب الشاطر الذي يحفظ آيات من النص المقدس، ويجاوره إذا مرِض، ويسابق خطواته إلى أي مشوار مخيف ليعينه ويُطمئنه، كما يسابق القمر قفزات البصر من نوافذ السيارات.

ولكنه في البلوغ، وصفه لي الكثيرون بصورة أقرب إلى رب العصا؛ الجنة للأقلية، والنار وجحيمها عقاب أي التفاتة بعيدًا عن القبلة. التساؤلات بدعة، وجوابها كفر، والصمت عنها نفاق، وأغنياء الطاعة يُعيّرون فقير المعصية، ويذبل الوجه عن تحية الصباح مع الله، وتُصفع نافذة الفجر، فلا نرى في النسيم لطف الله، ولا نسمع في الصمت سكونه.

وبعدما تعلمت أنه عادةً ما تشعر الجوارح بالخيانة عندما تتبدل مشاعرها تجاه أي أحد؛ انتبهت إلى أنها لا تفعل مع الله، بل تنساب من النقيض إلى النقيض، كنهر يترنّح بجدول ناعم. ولا يوجد ما يفسّر ذلك الانحراف الشعوري سوى أن هناك جسرًا ما يربط بين حب الإله والخوف منه حد التوسّل للنجاة، وهو “الشعور بالذنب”.

أجل .. ذلك هو الجسر الذي نجح البعض -بتصوراتهم المتوارثة- في تشييده بين الحب والخوف؛ جسر مسطور بآلاف الكتب، بين قلوب تبارك الفطرة، وعقول تلعن الإدراك.

ها هنا أجد ما أراه بالضحى منيرًا بين ظلمات ذلك الجسر؛ إنه الله نفسه، ذلك الأمل الذي يصرخ بقاع النفس، فلا يصل بين حطام اليأس والخوف إلا همسًا، نخشى أن نتسمّعه لكيلا يكون وسوسة شيطان مريد.

بل يجب أن نسمعه وننصت إليه، فلا يجوز أن يوسوس الشيطان بالحب، وقد علم البسطاء ذلك المعنى دون علم نظري أو تلقين خطابي، ودون حتى أن يبزر أمامهم الشيطان، فيقولون: “ما بيني وبين الله.. عشم”. وهذا “العشم” هو ما تربّيت عليه .. منذ الطفولة وحتى الآن.

والآن .. هل سأسترسل في ذكر آيات المحبة والرحمة وسرد رقائق الدين ترغيبًا دون ترهيب؟ كلا، فلست هنا في معرض الدفع عن صورة الله التي شوهها البعض بخوفهم من المجهول؛ فللبيت ربّ يحميه. وما أنا إلا ربّ الإبل، ولست أعمد إلى قدسية ذات الله لأنال منها بالتبسيط، فما تعلّمت من ألفاظ حاشا لذات الله أن تتسع لها. ولا أعمد إلى تحييد مقتضيات الأديان وفروض العبادة، فهي لغة التواصل البشرية مع الإله التي اختارها لنا، ولكن .. أبرأ إلى قلبي عن كل ما تكاثرت عليه ظنون الآخرين عن ربي.

الحب أجنحة طيرٍ يُحلق فوق جسر الخوف

الخوف من عقاب الله -في رأي البعض- قد يكون جسرًا يسوق النفس الخاطئة إلى ناصية النجاة.. لا ضيْر! أما حب الله -في رأيي- فقد يكون أجنحة طيرٍ يُحلق فوق ذلك الجسر الخشن، وينال بمهبطه رزق الأنس بالله. وأي متعة .. وأي يقين .. وأي سكن وأمان .. ذلك الذي نشعر به حال “الأنس بالله”!

فلا يصحّ أن تخاف ممن تحب، ولا أن تحب من تخاف، بل ربما يكون الخوف من التقصير في مقتضيات التعبير عن ذلك الحب؛ فالله مُطلق، وكل ما فينا نسبي. فمحبتنا إليه ستكون قاصرة رغم أنوفنا مهما حاولنا، وتلك هي المتعة الحقة، فلا نهاية لبذل أمارات الحب، فهي دومًا غير كافية، وبذلك يصير الحب لا نهائيًا، أبديًا، لا يشوبه راحة الوصول، ولا فتور الحصول.

وضحى الله يتجلى في عبارة قالتها سيدة بسيطة قابلتها منذ فترة، ورفضت مالًا لكونها لم تبذل جهدًا لاستحقاقه، حيث قالت: “خايفة ربنا ياخد على خاطره مني”، لم تقل: “أخاف من الله” أو “غضب الله” أو “ناره”، ولكن تخاف أن “ياخد على خاطره”. فتلك العبارة هي التي تجمع -في نظري- بين الحب كما يجب أن يكون، والخوف كما يجب أن يُعرّف.

ضحى الله .. هو الحب .. هو الأنس به .. هو الفطرة.

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةالله وأنا والآخر
المقالة القادمةالصورة الذاتية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا