عن الرقص مع الآخر

1329

 

كتبه: رفيق رائف

نحن جيل يعرف الكثير، ويمتلك الكثير من المعلومات والنظريات، نشترك في الكثير من ورش العمل، نتعرض للكثير من الخبرات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ونشاهد العديد من القصص في السينما. عندما نفكر في علاقاتنا بالآخر؛ بالطبع كل تلك الأشياء لها فائدتها. لكنها إنْ بقيت أفكارًا في سماء التخيُّلات، ولم تتشكل في اختبارات على أرض الواقع، ستظل بعيدة عن الإنسان وصراعاته، وعن علاقات الإنسان وتعقيداتها.

يسهل علينا أن نضع العلاقات في قوالب، نظل ننادي بنظريات عن العلاقات، نتساءل عن شكل العلاقات الصحيح؛ كيف نختار أنسب شريك؟ كيف نُعرِّف الحب؟ وكيف نعرف أننا نحب، أو الآخر يحبنا؟ ما الفرق بين الحب الحقيقي وذلك المزيف؟ كيف نحمي أنفسنا من جروح الحب؟ كيف نضع حدودًا ناضجة مع الآخر؟ كيف نتحكم في مشاعرنا؟ كيف نتحكم في مقدار تعلقنا بالآخر؟

لا أقول إن تلك الأسئلة لا يجب أن تُسأل؛ ولكنني أخشى أن نَتِيْه فيها، فنلوم أنفسنا ونلوم الآخر على أي خطأ أو ضعف يظهر. نقسو على أنفسنا ونقسو على الآخر مع أي هفوة. نتصارع مع أنفسنا ونتصارع مع الآخر حتى تتحول علاقاتنا إلى ساحة حرب، فيها يعتمد كل واحد على أسلحته كي يحافظ على قوته، وعلى دروعه حتى يختبئ خلفها ويحمي جروحه. يحاول كل طرف أن ينتصر على الآخر، أن يُحكم سيطرته عليه، أو حتى العكس، أن يذوب بالكامل في وجود الآخر وأن يتشكل كما يريده أن يكون.

لا أرى العلاقات مثل ساحة حرب، يفوز طرف، وينهزم آخر؛ ولا أراها مثل معرض تماثيل؛ حيث يحيا كل طرف في مكانه منعزلًا عن الآخر؛ ولا أراها مثل لوحة باهتة، يغلب عليها لون واحد فقط، حيث يفرض طرف ألوانه على الآخر. ولكنى أراها مثل رقصة تانجو مع الآخر، رقصة يكون كل طرف موجودًا فيها كما الآخر، موجودًا كما هو، بصراعاته، بتعقيداته، باحتياجاته، بأحلامه، بضعفه كما بقوته، بخطواته الجريئة كما بخطواته المتعثرة.

لا وجود لرقصة يطغى فيها طرف على الآخر، ويسيطر على حركاته مثل الدمية. في التانجو هناك مساحات يرقص فيها كل طرف رقصته الخاصة ويعبر عن نفسه لا عن توقعات الآخر. لا وجود لرقصة يتوقع كل طرف فيها الكمال من نفسه ومن الآخر؛ إنما جمال التانجو في قبول كل واحد لخطواته وتصالحه معها ومع خطوات الآخر. فالهدف ليس خلق رقصة كاملة، بل هو خلق رقصة جميلة حتى إن كان الاثنان يخطوان خطوات صغيرة وبسيطة لكنهما يستمتعان بها.

لا وجود لرقصة جميلة دون أن يثق كل طرف بالآخر، دون أن يكون آمنًا على تعبيراته وعلى خطواته، غير خائف من الهجوم في حالة التعثر، ودون أن يثق أن الآخر سيكمل معه الرقصة مهما تعثرا سويًا، وسيحاول مجددًا ومجددًا حتى يصلا إلى تناغم مناسب لهما، تناغم يشعر فيه كل طرف أنه مرئي كما هو، وأنه آمن على نفسه في عناق الآخر. لا يخاف كل طرف على نفسه أو على جروحه في محضر الآخر، ولا يتهمه بسوء النية إذا داس على قدمه بالخطأ.

لا وجود لرقصة يشعر كل واحد فيها أنه في فريق مختلف عن الآخر؛ لكن يشعر فيها الطرفان أنهما يشتركان في بناء الرقصة -أو العلاقة- معًا. فالعلاقات مثل الأشجار، كلما غذيتها واستثمرت فيها؛ ضربتْ بجذورها في الأرض وارتفعت وأثمرت، وصارت مصدر حماية وتغذية للطرفين.

لا وجود لرقصة يشعر فيها كل طرف بالتهديد من جمال خطوات الآخر، بل العكس؛ فالرقصة هي مشروعهما معًا، لا مشروع طرف واحد فقط. ولا وجود لرقصة يخاف فيها طرف على الدوام من أن يتركه الآخر حتى يعتصره القلق. يحترم كل طرف وجود الآخر في الرقصة ويقدره، ويحترم حريته في خطواته واختياره لها. بدلًا من أن تتصارع في علاقاتك، هل جربت أن ترقص فيها؟

أن تختار خطواتك بحُريَّة، أن تترك نفسك تتعثر وتترك الآخر يتعثر، حتى تتعلَّما سويًا ما هو الشكل الذي يناسبكما. لا نضوج في العلاقات دون اختبار، ولا اختبار دون أن تتعثر. لا وجود لعلاقات صحيحة أو كاملة؛ لكن هناك وجود لعلاقات “صحيَّة”، لا تختفى فيها الأخطاء أو الجروح، لكن يبذل كل طرف كل مجهوده كي يتعلم من أخطائه وكي يساعد الآخر في خطواته. يهتم كل طرف برعاية الآخر مثلما يهتم برعاية نفسه أيضًا، يرى كل طرف الآخر كما هو حقًا، وليس كما يريده أن يكون، يفهم كل طرف تعقيدات الآخر دون أن يحبسه في صورة معينة.

يا صديقى، أتمنى لك علاقات ترقص فيها، لا تحارب بها.

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب.

المقالة السابقةما الجديد عن الحب؟!
المقالة القادمةالحب عليه ديون

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا