لعل أصعب الأمور التي قد يتعلمها المرء يومًا، هو أن يتعلم عن نفسه ويُعلِّمها كيف تصبح نسخة أفضل من نفسها في أكثر من اتجاه. منذ عامين تقريبًا، كتبت صديقة أنها ستدخل الثلاثينيات من عمرها وهي في “كامل مشمشها”، تأملت الجملة كثيرًا، وهذا لأنني كنت بالفعل دخلت الثلاثينيات، ولكن “مشمشي” كان في حالة يُرثى لها تمامًا، حينها اتخذت قرارًا بأن أدخل النصف الثاني من الثلاثينات وأنا بكامل مشمشي أنا الأخرى، هدف يأخد بضع سنوات، ولكن هذا ما يتطلبه المشمش المبهدل حتى يستعيد رونقه.
مشمشي كان مركّبًا، فقد أردت أن أكون أفضل على المستويين الجسدي والنفسي. طريق طويل عليّ أن أقطعه، وفي سبيل تحقيق ذلك يجب عليّ في البداية أن أفكك الهدف إلى خطوات صغيرة وبسيطة، بدأتها وقتها بالاهتمام بجسدي، فأصلحت أسناني على مدى عدة جلسات حتى انتهيت منها، وبدأت ألتفت للمهام الأخرى.
إعمار الأرض لابنتي
شهد العام الماضي زيادة وعيي بالعديد من الأمور، واتخاذي لعدد كبير من القرارات، كان أهمها على الإطلاق أن أكون سعيدة وأن أبني علاقة قوية بيني وبين ابنتي الوحيدة، وأن أبدأ خطوات حقيقية وملموسة على أرض الواقع كي أكون إنسانًا فعّالاً، وفي سبيل ذلك قررت أن الخطوة الأولى ستكون الحد من الأدوات المعدة للاستخدام مرة واحدة، والتي غالبًا ما تكون مصنوعة من البلاستيك.
لا أعلم بالضبط كيف أو لماذا بدأت أهتم بالبحث عن الأمور التي تتعلق بالبيئة والأرض والحيوانات، هل بسبب انضمام الكلبة “بيكي” إلى أسرتنا وكسري لحاجز الفوبيا؟ لا أعلم بالضبط، ولكن فجأة علمت أنني لن أستطيع أن أحيا بطريقة لا مبالية لما يحدث من حولي مجددًا، وأن عليّ أن أفعل المزيد من أجل حماية المخلوقات الأخرى وحماية كوكب الأرض. أعتقد أنني حينها فهمت جملة “إعمار الأرض”. لا توجد فائدة من إنجاب المزيد من الأطفال في هذا الكوكب البائس إن كنا نخنقه ونقتله بشكل يومي ولا إرادي. أريد دائمًا أفضل الأمور لابنتي، فكيف إذًا أتركها في كوكب أساهم بنفسي في القضاء عليه؟!
مشكلة البلاستيك مشكلة حقيقية وخطيرة، فالبلاستيك الذي أصبح حجر أساس في كل تفاصيل الحياة اليومية، لا يتحلل ويظل موجودًا في البيئة لمئات السنين. ظننت في البداية أن الحل يكمن في إعادة التدوير، وحرصت أن أجمع الأكياس البلاستيكية وما شابه كي يعاد تدويرها، ولكنني صدمت فيما بعد أن عملية إعادة التدوير ذات تكلفة عالية، بالإضافة إلى أن الأغراض المكونة من أكثر من مادة مختلفة معًا لا يمكن إعادة تدويرها، والضربة القاصمة كانت في أن البلاستيك رديء الجودة لا يعاد تدويره هو الآخر.
الاستدامة وحقوق العمال
من هنا تعرفت على معنى كلمة الاستدامة، أن أحاول قدر الإمكان الحد من استهلاك المزيد من الأغراض دون داعٍ، ولهذا بدأت تدريجيًا في بناء عادات جديدة لنا داخل المنزل، فبدأنا بالاستغناء عن الأطباق والأكواب المعدة للاستخدام مرة واحدة، والبدء في استخدام الأدوات التي يعاد استخدامها بشكل دائم. اشترينا كلنا زجاجات مياه صحية حتى لا نضطر إلى شراء زجاجات مياه بلاستيكية أثناء وجودنا خارج المنزل.
هكذا أصبحت أفكر في كل نشاط أفعله في كيفية الكف عن استخدام المزيد من الأدوات والأكياس البلاستيكية الرديئة، أصبحنا نذهب إلى السوبر ماركت حاملين شنطنا القماشية أو الصديقة للبيئة التي اشتريناها من المحال المختلفة، وأصبح لساني تلقائيًا يقول “شكرًا مش عايزة كيس”، عند شراء أي غرض من أي متجر.
الاستدامة لا تتوقف عند هذا الحد، ففي تجربتي الشخصية امتدت الاستدامة لتشمل الكتب والملابس. أعترف بأنني تعودت على شراء الكتب المستخدمة توفيرًا للنقود، وقبل أن أعرف معنى كلمة الاستدامة من الأساس، ولكني علمت فيما بعد أن هذا واحد من أهم طرق الحفاظ على الكوكب. التبرع أو بيع الأغراض التي لم تعد تلزمني ولا زالت حالتها جيدة أو مقبولة، وشراء أخرى مستخدمة طالما كانت تؤدي الغرض، وهو ما أدى بالضرورة إلى الحد من الاستهلاك بصفة عامة.
يبدو أن التعلم بالتجربة العملية هو طريقتي المثلى في التعلم، فأثناء قراءتي عن أهمية شراء الملابس المستخدمة وأن هذا الأمر يعد توفيرًا للمواد الطبيعية كالمياه، والتي تستخدم بكميات كبيرة في عملية تصنيع الملابس، عرفت أيضًا أن الكثير من متاجر الملابس العالمية تستغل العمالة الرخيصة في الصين وبنجلاديش وغيرهما، ولا توفّر للعاملين بها أدنى معايير السلامة، في الوقت الذي تبيع فيه قطعة الملابس الواحدة بمئات أضعاف تكلفتها.
نفس الأمر تقريبًا ينطبق على الكاكاو والشوكولاتة وزبدة الكاكاو، فمزارعو الكاكاو بإفريقيا تُعاملهم شركات الشوكولاتة كالعبيد، وبينما يتمتع أصحاب هذه الشركات بثراء فاحش، يموت هؤلاء المزارعون من الحر والأمراض. وبالطبع كما لكم أن تتوقعوا، اتخذت قرارًا واعيًا بالتزام الحد الأدنى في تناول الشوكولاتة والمساهمة في أرباح هذه الشركات الجشعة.
التطور المهني
لمن لا يعرف، فأنا قد تخرجت من قسم العمارة، لأعمل لمدة عامين في مهنة لا أحبها. تركتها لأتزوج وأسكن في مدينة نائية، ثم أنجبت ابنتي لأدخل بعدها في دوامة عنيفة من الاكتئاب، وبدأت بعدها تدريجيًا في الدخول لعالم الكتابة، ولكن لأني لم أدرس الصحافة ولم أشترك أبدًا في ورش للكتابة، ولم تسمح ظروفي ومخاوفي بأن آخذ الخطوة حتى بعدما كبرت ابنتي، ظللت طوال الوقت أشعر أن الجميع متفوقون عليّ بشكل أو بآخر.
مع بداية 2019 قررت أنني أريد انتهاز الفرص التي تمر دون أن أحاول الإمساك بها، وبالفعل التحقت بكورسات متنوعة، مثل الترجمة والصحافة، لأكتشف أنني أفضل بكثير مما كنت أتوقع، ولكن ورشة السايكودراما باستخدام الكتابة هي ما أدهشتني فعلاً، جعلتني أتعرف على “آيات” أخرى بداخلي، وفتحت لها الطريق حتى تستطيع التعبير عن نفسها بحرية.
تحسن حالتي الصحية
يُعد عام 2019 هو عام الاكتشافات الصحية بلا منازع، ففيه علمت أنني لست مدللة ولا أهوّل الأمور، ولكنني فعلاً مصابة بمتلازمة مرضية تجعلني أشعر بالإرهاق والألم طوال الوقت، وأنني أمتلك قدمين “نصف مسطحتين”، وهو الأمر الذي كان يتعبني للغاية ولم يلتفت له الأطباء طوال سنوات كثيرة. وأخيرًا علمت أنني بالفعل كائن ليلي، وهو أمر ليس بيدي ولا يمكن تعديله، وأن إرهاقي في ساعات الصباح سيظل موجودًا طوال العمر، لأن هذه هي طبيعتي التي لا يمكن تغييرها.
بالطبع لم أكتفِ بهذا فقط، فأنا لا زلت أريد الاهتمام بمظهري، فبدأت رحلة فقدان الوزن، ورحلة قد تكون أطول للحفاظ على البشرة التي أهملتها ما يزيد عن 30 عامًا، فأصبح لديَّ روتين صباحي ومسائي للبشرة، فضاقت مسامي الواسعة التي كادت أن تبتلع فيلاً، وأصبح من يراني يخبرني أن وجهي قد تغير بالفعل.
تحسّن علاقتي بابنتي
كل الطرق في النهاية تؤدي إليها، فأنا أريد كوكبًا أفضل من أجلها، وأريد أن أكون إنسانة أفضل لأنها تستحق الأفضل في كل شيء. أصبحت أقضي أوقاتًا أطول مع ابنتي لأستمع إليها بآذان حقيقية. خضت معها مغامرات ركوب مترو الأنفاق والسير في شوارع وسط البلد، بل حتى وركوب السيارات بطريقة “الكاربول”، وهي ركوب سيارة مع شخص لا تعرفه ولكنه سيذهب في نفس اتجاهك، وسافرت برفقتها مع صديقتي المفضلة وابنتها للمرة الأولى.
رغم إرهاق هذه الفترة فإنها كانت مميزة للغاية، وأستطيع القول بضمير مستريح إنها من أفضل الأمور التي حدثت في العام الفائت. التقطنا الكثير من الصور في محطات وعربات المترو، تسابقنا على سلالم المحطات شبه الفارغة، واستمتعت بقضاء أوقات طويلة معها، كانت نتيجتها أنها أصبحت بدون مقدمات تحضنني فجأة وتقول لي “بحبك”.
أشركتها في الأنشطة التي أريد أن تتعلمها، فجمعنا معًا المخلفات البلاستيكية من على شاطئ البحر ثم ألقينا بها في صندوق القمامة، وشاركتني التسوق لمستلزمات حفل عيد ميلادها في سبيل الاستغناء عن الأدوات والأكواب البلاستيكية المعدة للاستخدام مرة واحدة. أحبت الحيوانات بحق وبتقهّم، فصبرت على خوف كلبتنا الجديدة “لطيفة” لمدة شهر كامل، حتى استطاعت في النهاية أن تثق بها.
أهم دروس 2019 التي تعلمتها
لن أكون كاذبة وأدّعي المثالية، فأنا لا زلت أشتري الملابس من المولات والمحال الشهيرة، أتجه إلى أرفف الشوكولاتة بشكل تلقائي ولا أتذكر مأساة إفريقيا إلا بعد أن تقبع الشوكولاتة في أعماق بطني، ولا زلت ألجأ في الكثير من الأوقات إلى استخدام البلاستيك المعد للاستخدام مرة واحدة. أخرّب نظامي الغذائي وأتناسى روتين بشرتي وأتقاعس عن أداء مهامي وأصرخ في ابنتي، ولكن ربما يكون هذا هو الدرس الأكثر أهمية في هذا العام، فقد تعلمت أن أسامح نفسي، فأنا لست إنسانًا آليًا. تعلمت أنه يمكنني الاعتذار وأن تغيير العادات المتأصلة فينا ومحاولات الحياة بشكل صحي وأفضل للكوكب هو أمر ليس بالهيّن أبدًا، ولكنه في نفس الوقت ليس مستحيلاً ما لم نكف عن المحاولة.
اقرأ أيضًا: دروس تعلمتها من أجل التخلص من ضغوط العمل