ثقلٌ على صدرها، ودمعتان تمنعهما من الهروب من عينيها، بأن تغمضهما وتفتحهما مرارًا وتكرارًا، تسحب نفسًا عميقًا فيؤلمها، بدلاً من أن يُريح، هذه حالةٌ لا شيء فيها يريح.
هل عرّف أحدهم الغصّة من قبل؟
لا يُهم، المهم أن أحدًا لن يشعر بها، لأنها أحد الذين منحهم الله كل شيء، نظريًا.
الاكتئاب كالحب، كلاهما نلقاه من غير تخطيط، كـ”دور برد” لا يصيبك إلا في أكثر الأوقات التي تحصّن فيها نفسك، الاكتئاب كحلم، لا تعرف بدايته، وإنما تجد نفسك في منتصفه تمامًا، غارقًا، تتخبط ما بين مسببات الفرحة، فلا تجد منها إلا محفزات لدموعٍ في عينيك، وتدخل مجددًا دائرة محاولات الهروب التي لا تنتهي.
الاكتئاب ليس حزنًا بالضرورة، ليس رغبة في بكاء، وإنما فيه شيء من ضياع، تبهت فيه الألوان، ونفقد فيه قدرتنا على تذوّقِ طعامٍ نحب، شعور يتشابه فيه الجميع في أعيننا، التي تفقد بالمناسبة قدرتها على أن تبصر الغد، الغد واليوم سواء، ككل الأشياء في دنيانا، إن تسرّب إليها الاكتئاب، فغلّق أبواب الدنيا من دوننا، فلا يمد لنا أحدهم يده، ولا نستطيع نحن أن نتجاوب لو فعل.
ووسط هذا كله يسأل أحدهم: “وإنتي اللي زيّك يكتئب ليه؟”.
يصنّف الناس بعضهم بعضًا، هكذا كُنا مذ خلق الله الأرض، وهكذا سنبقى حتى آخر العالم، وبعضنا قد يبدو في نظر الناس برّاقًا، لا شيء ينقصه، لأنه يملك المال ربما، أو لأن دائرته واسعة، نجاحٌ في العمل، أو قصة حبٍ حلوة، وتفاصيل أخرى كبيرة وصغيرة، تخدع، تجعل الناس يظنون أنها إن توافرت فيك فقد نجوت، وأن الحزن لن يدركك يومًا، يستندون في ظنهم هذا على تجاربهم الشخصية التي بكوا فيها على فقد وفقدان ما تملك أنت، وما يعني كونك تملكه أن عندك الدنيا، وهل يكتئب الذين يملكون الدنيا؟ الإجابة: نعم.. وأكثر حتى من الذين لا يملكون شيئًا.
أن تلمع في أعين الناس، يعني أن لك وجهًا آخر، مظلم، لا يعرفه إلا أنت، هذه حقيقة يعرفها البرّاقون وحدهم، أن تبتسم في أغلب الوقت، يعني أن شيئًا ما يوجعك في كل الوقت، لا أحد سيعرف أبدًا أن كلَ ما يبدو من كمالٍ في حياتك، تبديه أنت.. إخفاءً لمَ ينقُصك، حتى ظن الناس أن لا شيء ينقصك، لتعذّبك هذه الفكرة أكثر وأكثر.
الذين يملكون الكثير، يفكرون دائمًا في هذه الأشياء التي تبدو صغيرة في أعين الآخرين، لأن الأشياء تكبر في أعيننا بقدر ما كانت بعيدة ربما، أو لأن تقبّل فكرة فقدان الأشياء الصغيرة قد يكون أكثر صعوبة من الرضا بكونك لا تملك شيئًا كبيرًا، قد يتطلب منك أن تبذل مجهودًا وتمتلك من الحظ قيراطًا أو فدانين من “الشطارة”، غياب بعض الأشياء الصغيرة قد يترك في الروح فراغًا لا يراه إلا أنت، وهذه هي المشكلة.
والاكتئاب حين يزور، لا يفعل لسببٍ في كل مرة، وإن كان العلم حتى هذه اللحظة، يقف عاجزًا أمام التفسير المنطقي لنوبات الاكتئاب التي تداهمنا من غير سابق إنذار ولا سبب نعرفه، إلا أن بعض الدراسات، تشير إلى أن الأمر يتعلق أحيانًا بخلل في كيمياء الدماغ، ما يكون وراثيًا في بعض الأحيان، أو ما قد تسببه بعض الصدمات التي يتعرض لها المرء في طفولته أو بسبب حوادث عارضة، أضف إلى ذلك حالات الاكتئاب الهرمونية “Hormonally-induced” أو تلك التي ترتبط بالإصابة ببعض الأمراض، كالغدة الدرقية أو السرطان، حتى قبل اكتشاف المرض.
لا أحد منّا بمنأى عن الاكتئاب، وهذا مرعبٌ ومريح، فجميعنا يعرف أن دوره قادم لا محالة، مهما تحصّن وأينما اختبأ، ولا شيء يهوّن ذلك إلا أننا فيه سواء. ما تتفاوت فيه فرصنا هو أن نحكي، أن نفتح قلوبنا فنمنح النور فرصة ليمحو ما تركه الحزنُ من علامات على جدرانها، لكّن البعض يحولون بيننا وبين ذلك، حين نرى في أعينهم علامة استفهام كبيرة، تخفي سؤالاً لا يصرّحون به بالضرورة ولكننا نسمعه، في صمتهم، في كل “معلش” يقولونها وبها يقصدون: “هو إنتي ناقصك إيه؟!”.
ما ينقُصنا حقًا أن نُسمَع.. أن يشعر باكتئابنا أحد، حتى وإن لم يقتنع بالأسباب، نحن لن نطلب من الجميع ارتداء نظارة سحرية، ليدركوا الثقوب في أرواحنا، ولكن من حقنا أن يقدّر الناس أن ثمة شيئًا يحدث هناك، بعيدًا في داخلنا.. ما نريده حقًا، ألّا نفكر مرتين قبل أن نبوح، ألا نحمّل أنفسنا فوق أحزاننا مشقة أن نُحسب على الذين لا يحزنون أبدًا، ولسنا كذلك.. ولن نكون يومًا.
لا سعادة خالصة في هذه الدنيا، لا لنا.. ولا لغيرنا.
—