اعتقل بأحد المعسكرات النازية في الأربعينيات. وهناك وجد نفسه نمرة بعد أن كان شخصًا، وجد نفسه جائعًا حافيًا عاريًا مجردًا من كل شيء إلا من بعض الخرق البالية، يأكل الخبز الجاف ولا يقدر على أن يطأ الأرض من شدة الألم، كان حين يتحرك مع قطيع السجناء لا يعرف هل يتحرك إلى فرن الإعدام أم إلى عمل يتلخص في نحت الصخر بالأظافر. لم يكن يعرف شيئًا عن أهله، واكتشف فيما بعد أنهم قُتِلوا جميعًا، وظل هو في المعسكر يعاني من توقع الإبادة كل ساعة.
إنه “فكتور فرانكل”، الأستاذ بجامعة فيينا، طبيب أعصاب وطبيب نفسي نمساوي، أحد مؤسسي العلاج بالمعنى، وأحد الناجين من المحرقة، يصف في كتابه الشهير “الإنسان يبحث عن المعنى” تجربته كسجين في معسكرات الاعتقال النازية، والتي قادته إلى اكتشاف المعنى في كل أشكال الوجود، حتى في أشدها قسوة. لقد وجد “فرانكل” معنى في المعاناة، بل إنه يعول عليها كثيرًا في اشتقاق معنى يعيش الإنسان من أجله. كما وجد معنى في الموت أحيانًا، إذ يموت المرء سعيدًا من أجل معنى ديني أو وطني.
وأساس العلاج بالمعنى أن الإنسان إذا وجد في حياته معنى أو هدفًا فإن هذا معناه أن وجوده له أهميته ومغزاه، وأن حياته تستحق أن تُعاش بل إنها حياة يسعى صاحبها لاستمرارها والاستمتاع بمغزاها.
من شخص إلى نمرة.. من الحرية إلى الاعتقال
يقسم “فرانكل” المراحل التي يمر بها السجين في المعسكر إلى: مرحلة الصدمة (وفيها يكون لدى السجين ما يسمى بوهم الإبراء، أي الأمل في أنه سيتم إنقاذه)، ومرحلة البلادة، فبعد اللهفة للأهل، والاشمئزاز من كل ما يحيط به، كالتقزز من البراز إذا أصاب وجهه وهو ينظف المراحيض وإدارة وجهه عند تعذيب زملائه (وكان يعاقب على ذلك)، تتبلد مشاعره إزاء هذه المشاهد لحماية نفسه. لقد كانت كل الانفعالات والجهود متمركزة حول الحفاظ على الحياة، وهذا يهز كل قيم الإنسان ويُعرِّضه لفقدها. وإذا لم يكافح الشخص في معسكر الاعتقال ضد ذلك بأقصى استطاعته فإنه يفقد الشعور بأنه كائن حر له عقل ويهبط إلى مستوى الحياة الحيوانية.
ومن الأشياء التي أعانت بعض السجناء على تحمل تلك الظروف الصعبة والحفاظ على إنسانيتهم وسط تلك الظروف اللا إنسانية، تذكر الأحبة والتحدث إليهم في خيالهم، والهروب إلى الماضي، والمرح، ولكن الأهم كان الحياة الروحية، فالحرية الروحية هي التي تجعل للحياة معنى وتخفف الظروف الباعثة على الفزع.
لقد كان بعض الأشخاص يمرون على الأجنحة للتهدئة من روع الآخرين، ويضحون بإعطائهم آخر كسرة خبز معهم، وعلى الرغم من القلة العددية لهؤلاء لكنهم دليل على أن هناك شيئًا واحدًا لا يمكن أخذه من الإنسان، وهو أن يختار المرء اتجاهه في ظروف معينة.
و”فرانكل” نفسه كان قد اتفق مع زميل له على الهروب، ولكنه تراجع من أجل المرضى الذين كان يرعاهم في المعتقل، وبقي معهم يتحدث معهم ويحاول تهدئتهم من هذيانهم. يقول “ببقائي مع مرضاي انزاح عني ما كان جاثمًا على صدري من شعور مؤلم. لم أكن أعلم بما ستجلبه الأيام التالية ولكني اكتسبت سلامًا داخليًا لم أخبره من قبل”.
فما الذي يساعد الإنسان على الاستمساك الداخلي في الظروف القاسية؟
من أكثر الأشياء التي كانت تبعث على الاكتئاب لدى المسجون هي أنه لم يكن يعرف الفترة التي سيقضيها في السجن -وهو ما يطلق عليه “الوجود المؤقت”- مما جعله غير قادر على الحياة من أجل هدف، فحياة الحاضر تتوقف من أجل المستقبل. لذلك كانت أي محاولة لمحاربة التأثير المرضي للمعسكر على السجين تهدف إلى منحه قوة داخلية عن طريق تبصيره بهدف يتطلع إليه. فالإنسان يتميز عن غيره من الكائنات بأنه يستطيع أن يحيا بواسطة تطلعه إلى المستقبل.
يحكي “فرانكل” أنه شعر ذات يوم بالاشمئزاز والسأم من اقتصار تفكيره في كل يوم وساعة على أشياء تافهة (مثل: ما الذي سيأكلونه هذه الليلة؟ هل يستطيع أن يستبدل السيجارة بحصة إضافية من الطعام؟ هل يستطيع أن يحصل على قطعة من السلك الشائك كرباط لحذائه؟ …إلخ)، فأجبر أفكاره على التحول إلى موضوع آخر. وفجأة رأى نفسه في قاعة مليئة بالحضور، يلقي محاضرة عن سيكولوجية معسكر الاعتقال، فنجح إلى حد كبير في العلو فوق الموقف، حيث أصبح كل ما كان يكدره واضحًا بالنسبة إليه، فقد صار شخصه وظروفه موضوعًا لدراسة شيقة يجريها بنفسه. ويقول “سبينوزا” في كتابه “الأخلاق”: “إن الانفعال، وهو في جوهره معاناة، يتوقف عن أن يكون انفعالاً ومعاناة حالما نكون صورة واضحة ودقيقة عنه”.
وكان هناك سجينان شرعا في الانتحار، حيث رأيا أنه لم يكن هناك شيء يمكن توقعه من الحياة. فحاول زملاؤهما تبصيرهما بأن الحياة ما زالت تتوقع منهما بعض الأشياء. بالنسبة إلى أحدهما كان هذا الشيء هو ابنه الذي ينتظره، وبالنسبة إلى الآخر كانت سلسلة كتب لم ينتهِ من تأليفها. إن الإنسان عندما يتحقق من استحالة أن يحل أحد مكانه يشعر بضخامة المسؤولية ولا يستطيع أن يفرط في حياته. فهو يعرف سبب وجوده الذي يميزه عن غيره، مما يجعله قادرًا على تحمل المعاناة بأي شكل.
وعلى الجانب الآخر، عندما يفقد السجين (والإنسان بشكل عام) الثقة في المستقبل، فإنه يعرض نفسه للانهيار العقلي والجسمي. مثال واضح على ذلك أن أحد السجناء روى لـ”فرانكل” أنه رأي في المنام نبوءة بأن الحرب ستنتهي يوم الحادي والثلاثين من مارس، وهو ما سيترتب عليه الإفراج عنهم. كان يروي له ذلك وهو مفعم بالأمل. وعندما جاء يوم التاسع والعشرين من مارس لم يكن هناك أي بادرة لانتهاء الحرب، وفي الثلاثين من مارس أصيب بالحمى والهذيان، ومات في يوم الحادي والثلاثين.
يقول نيتشه: “من يمتلك سببًا يعيش من أجله فإنه يستطيع غالبًا أن يتحمل بأي طريقة وبأي حال” ومعرفتنا لذلك السبب ينبغي أن تقوم لا على الكلام والتأمل، ولكن على العمل الحق والاضطلاع بالمهام والمسؤوليات التي تفرضها علينا الحياة، وهذه المهام تختلف من شخص إلى آخر ومن لحظة إلى أخرى. فكل موقف يستدعي استجابة مختلفة، ففي بعض الأحيان يستلزم الموقف أن يشكل الإنسان قدره بأعماله، وأحيانًا يكون من المفيد أن يحقق وجوده بالتأمل، وقد تستلزم الحياة منه أحيانًا أن يتقبل قدره ويتحمل متاعبه. وبالنسبة إلى المسجونين، كانت تلك الأفكار هي التي حافظت عليهم من اليأس، لأنها وسعت معنى الحياة عن كونه تحقيق هدف من خلال الخلق الفعال لشيء ذي قيمة.
لقد كانت تلك المصائب التي حلت بـ”فرانكل” دفعة واحدة (من تجربة الاعتقال اللا إنسانية، وفقد الأهل والأحبة والمنصب، والإحساس بالظلم والقهر والعجز) كفيلة بأن تقضي عليه وتحطم حياته، ولكنه استطاع بقوة داخلية أن يعلو فوق معاناته ويحولها إلى انتصار، ليخرج لنا نظريته في العلاج بالمعنى.
من أقوال “فرانكل”: “إن القوة الداخلية للإنسان قد تعلو به فوق قدره في هذا العالم، فحيث يواجه الإنسان أمرًا مقدرًا لا بد من وقوعه، تكون هناك فرصة تحقيق شيء من خلال المعاناة”.