“من أنت؟!”.
خطتها بنت “نعيمة ألماظية” للمخرج الشهير الذي لفت انتباهها، وقد كانت هذه هي طريقتها للفت انتباهه بالمثل ربما. ولكنها أردفت في مناقشتها له فيما بعد أن سؤالها لم يكن بغرض لفت الانتباه، ولكن لتعرف بناء على إجابته كيفية تعاطيها معه ومع ما يقوله فيما بعد، ما إن كان يريد إفادتها حقًا عن علم لديه أو يريد التنكيل بها أو يستعرض عضلاته لا أكثر ولا أقل.
وبعيدًا عن هذا السياق الدرامي.. مع مرور الوقت تأكدت أن هذه هي الطريقة المثلى للتعاطي الأوَّلي مع الآخرين، بأن نعلم من هم حقًا، والأسباب الحقيقية وراء ما نتلقاه على مسامعنا منهم، فربما تكون الأفعال والكلمات مكررة، لكن الهدف وراء كل فعل يجعل له بصمة خاصة جديرة بملامسة قلوبنا، أو جعلها جملة عابرة لا تستحق منا الالتفات، وربما محاولة لهدمنا قد نجونا منها لبواقي حظ لدينا.. ربما.
فللكلمات فعل السحر على أرواحنا الهشة، إما أن تزرع بها ورودًا أو أن تلقي علينا لعنة الأرض البور إلى الأبد.
ربما يعتبر لفظ التنمر من الألفاظ الحديثة على مسامعنا نسبيًا، رغم كونه قديمًا قدم الزمن، وقد روَّجت الحكومة المصرية لحملة تدعو للامتناع عن التنمر في مدارسنا، نظرًا لكون نفسيات الأطفال هي الأكثر هشاشة وقابلية للتأثر، فلم ينمو لديهم أي دروع من فعل الخبرات الحياتية ولا تجارب حقيقية يمكنهم القياس عليها، لتحديد إن كان ما يمرون به محاولة للتنمر، وعليه يحددون رد الفعل المناسب.
أعتقد لعلها الحملة الأكثر إنسانية لإنتاج جيل أقل تشوهات نفسية، وربما الخطوة القادمة والأهم من وجهة نظري أن يهتموا بتربية شخصيات ذات بناء نفسي قوي، قابل للتعاطي مع التنمر، لفظيًّا كان أو جسديًّا، فليس للتنمر حدود تمنع تداوله خارج إطار سور المدرسة.
منذ الصغر وأنا أنشغل في تكوين صور واضحة عن الشخصيات التي أتعاطي معها، فقط بغرض “فلترة” المتلقَّى منها، وهذه تعتبر آلية من آليات التعايش لا أكثر ولا أقل، فبوسط فيض من نفسيات مشوهة نتعامل معها يوميًا -اختياريًا كان أو إجباريًا- يصير لزامًا علينا معرفة من هم؟ ولمَ يقولون ما يقولونه؟ وهل يقولونه بفعل محبة أم من نابع بغض وحقد لشخوصنا؟ والأهم من أن نعرفهم أن نعرف أنفسنا، حتى لا يصير لكلامهم أثر عميق قد لا تداويه الأيام أو السنين.
لطالما كان للكلمة أثر عميق بروحي، ولطالما كرهت بنفسي هذه الصفة لكوني أراها من نقاط الضعف التي عليَّ التخلص منها أو تحجيمها على الأقل، فهذا يعطي للمتحدث سلاحًا ضدي يستعمله إن تلاعبَت به الظنون وقرر إيذائي، وهو ما لا يحمد عقباه بالتأكيد، لكون التوقيت سيحدده غيري، وربما بهذا التوقيت أكون غير أهل لسماع ما سيقال.
لقد كانت لهذه الصفة المذمومة أثر بالغ بشخصيتي سابقًا، بينما كنت أتعاطى مع كل ما يقال ومعاملته كونه يستحق الالتفات والنظر بأمره، واستخراج النفع منه. حتى اكتشفت كم الدوامات الفكرية التي تعصف بذهني في محاولة استنباط المعنى الجيد وراء ما أتلقاه من الآخرين، الذين ليسوا بالضرورة حسني النية.
كان هذا بأعوامي الأولى كطفلة لا تعلم حدود قدراتها، فلا تعلم إن كانت ذكية، جميلة، متفوقة دراسيًا، وقد كانت لنا صولات وجولات لتحديد القدرات المطلقة التي أمتلكها، والتي تحدد شخصي، وأيها قابل للتعديل وأيها عليَّ التعاطي معه كونه وضعًا قائمًا، ومنع نفسي من التذمر بخصوصه لاحقًا لإيقاف سيل لوم الذات غير البنَّاء، بل ربما يكون هدامًا ويحملني شعورًا بالغضب من نفسي لرغبة تغيير طبع أصيل بشخصي لا يمكن استخلاصه من ذاتي مهما فعلت. إذًا هو غضب مطلق متجدد لن يزول أبدًا، وبالتأكيد هذا ما لست بحاجه له على الإطلاق.
قد تكون هذه العملية لتحديد الأبعاد الحقيقية للذات وتطويرها، عملية تستغرق عمرًا بأكمله، وربما تكون من المحظوظين المتأكدين من أبعاد شخوصهم، ولكن يظل الأهم قبل أن تعلم من هم الآخرين لتحدد كيفيه تعاطيك معهم، أن تعلم من أنت حقًا، لتعلم أيهم يستحق النفاذ لروحك وأيهم لا يستحق سوى ابتسامة صفراء خالية من كل ما يمكن أن يحويه لفظ التبسم، ومن ثم تكمل طريقك وكأن شيئًا لم يكن، مصاحبًا ذاتك التي تستحق المصاحبة لكونك سهرت على بنائها بكل قوة لديك.