من التنمر ما قتل

477

“من الحب ما قتل” هو تعبير كليشيهي للغاية، تعبير قديم مُستهلَك يُضرَب به المثل عن الحب الأناني المجنون المُتمَلِك، أو عن العلاقات السامة التي يُغلِفها إطار مزركش من الحب والحنان الجارف، الذي قد يكون حقيقيًا وقد يكون كاذبًا، لكنه أيًا كانت حالته، يصل بكل أطراف العلاقة إلى الضرر النفسي، ويتسع معناه إلى أمثلة كليشيهية تمامًا مثله، كالقطة التي أكلت أطفالها.. كل هذا في سبيل خدمة معنى واحد فحسب، وهو أن للحب شكلاً قد يودي لهلاك أصحابه. لكن ليتضح مقصدي منه يجب أن يتضح ما أعني حين أقول إن ثمة أشكالاً أخرى للحب، يتضمنها قتل نفسي، لكنه لا يؤذي سوى طرف واحد فحسب.

 

حينما يظهر لفظ التنمُر الآن بين الناس، وبعد الحملات الواسعة التي تقوم بها أكثر من جهة للتوعية بأشكاله ونتائجه، يحضر لأذهاننا شخص قاسٍ، صاحب الكلام اللاذع واللسان السليط، أو من يستغل قدرته العضلية في مقابل ضعفك، ليأخذ أشياء من حقك ويعتبرها حقه، أو ليعتدي عليك جسديًا، ساخرًا من قدراتك العضلية الضئيلة.

 

أو من يختبئ خلف شاشات إلكترونية سهَّلت وصول الأذى النفسي عبر الـComments والـShares، ليستغل عدم قدرتك على الوصول إليه، ويخبرك أن الحياة ستكون أفضل بكثير إن لم يكن أمثالك بها، لمجرد اختلافكما في وجهات النظر أو حتى في محتوى صفحتكما على فيسبوك. تمامًا مثلما حدث مع “شادي سرور” الكوميديان الشاب، الذي حتى إن اختلفنا مع أسلوبه، فلا يجوز تمني أن نراه ينتحر لايف، أو نخبره بأن “يسترجل” ويكف عن البكاء من أجل الشهرة والـLikes، مثلما أخبره المتنمرون في التعليقات.

 

باختصار شديد، حينما يحضر لفظ التنمر تتجه أذهاننا أوتوماتيكًا لشخص يكرهنا، من الجائز ألا يمت بصلة لدوائر معارفنا، ومن الجائز أن نعرفه، لكن ليس بشكل قريب، كأطفال في الفصل المجاور لفصلك، مدرس كان يجعلك نكتة الفصل، دكتور المادة في الجامعة، مديرك في العمل، لكن ما لا نحسب له حسبانًا حقيقيًا، هو التنمر من الأقرباء، ممن نحبهم وندرك أنهم يحبوننا بصدق، حتى أننا لا نشعر في كثير من الأحيان أنهم يتنمرون علينا.

 

كل ما نحسه هو وخزة في القلب، حزن شديد بأن هذا حدث تحديدًا من شخص نحبه. حزن مغلف بقدرة خرافية على التسامح تجعلك تخفي ما تشعر به من ألم لتفرغه وحيدًا، ربما في صورة بكاء، أو غضب، أو عتاب خفيف لا يرقى لمستوى الألم أبدًا، فنحن نغالط أنفسنا دائمًا، نقتنع بأنهم يمزحون أو لم يقصدوا أو أنهم فقط خائفون على مصلحتنا، لكننا نقتل أنفسنا، تمامًا كما يساهمون هم في قتلنا.

 

تظنوني أبالغ بذكر فعل القتل مع التنمر الصادر من الأقرباء والمحبين؟! أبدًا، على العكس، هذه اللفظة في محلها كليًا، القتل النفسي لا يحدث بطريقة بالغة الأثر إلا إذا كان صادرًا من مقربين، ممن نظنهم دائرة الثقة، بداية شعور الفرد بالأمان. تخيل أن أغلب احتكاكاتك مع هذه الدائرة تنمر، هل ستكون أبدًا إنسانًا سويًا؟

من واقع خبرتي، يمكنني أن أجيب عن هذا السؤال بـ”لا”، خصوصًا وأنا أمتلك شيئًا من الأدلة.

 

لصديقتي شعر يشبه شعر “مريام فارس”، يحسدها أغلبنا على كثافته ولونه الأسود الليلي، لكنها لا تصدقنا أبدًا، تكرهه بشدة وتكره أن تنظر له في المرآة، حتى أنها ارتدت الحجاب من سن مبكرة جدًا لتخفيه. حين تزوجت، كانت ترتدي إيشاربًا صغيرًا على شعرها في البيت حتى تذهب لصالون التجميل.

 

جلست معها يومًا وسألتها ما السر، لتخبرني أن الأمر بدأ مع أمها حين كانت تخبرها وهي طفلة كم أن شعرها ناشف وهايش ولا شيء يجدي معه. مرة تلو الأخرى، تأخذها لدى صالون التجميل لعمل بروتين وكرياتين حتى يصبح مثل شعر فتاة إعلانات، ولا تعطي فرصة للبنت أبدًا أن تترك شعرها للريح تداعبه، فهو دائمًا معقوصًا في شكل كحكة وممتلئًا بكل أنواع الدبابيس، لتُصدِّق كلام متنمرات الفصل عن مدى قبح شعرها، ويترسخ لديها اليقين بهذا، فإذا أقسم لها يومًا أحدهم أن شعرها جميل لا تصدقه، وهي تعيش بعقدة أن تنجب أطفالاً لديهم مثل شعرها.

 

أعرف فتاة جميلة تعمل معي، تحضر يوميًا للعمل بعلبة تمتلئ بالخضراوات، تأكلها على مهل في استراحة الغداء وهي تكاد تبكي، وحين سألتها عما بها، بكت بكاءً هستيريًا وكأنما تنتظر أن يطلب منها أحدهم الفضفضة، فهي ممتلئة قليلاً، وتخبرها أمها يوميًا كم هي سمينة، تمنعها عن ما تحبه من طعام وتجبرها على تناول السلطة دون أن تشجعها أو تحفزها للحفاظ على صحتها، بل تخبرها أنها ليست جميلة، ولن تتزوج أبدًا ما دامت بهذا الشكل المقزز، حتى بعد أن خُطِبت مؤخرًا، أصبحت تجبرها أكثر على تناول طعام لا تحبه بغرض إنقاص وزنها، لاعتقادها أن هذا الرجل حتمًا سيتفاجأ يوم زفافهما بالمصيبة التي ارتكبها في حق نفسه، وأنه سينفر منها بالضرورة حين يراها بثياب النوم.

 

ظلت مع كل شهقة بكاء تكرر “يمكنني أن أتحمل نظرات الناس، أو هزارهم الثقيل ومزاحهم حينما يروني حتى أتناول كيس شيبسي، طالبين مني أن أكف عن الأكل، مع أنه يكون أول شيء أضعه في جوفي، لكن حينما يأتي الأمر منها، أشعر بأني فعلاً قبيحة مهما حاولت، فإذا كانت أمي لا تتحمل رؤيتي هكذا، من سيتحمل؟!”.

 

لن يسعني الكلام لذكر كل أمثلة التنمر التي تحدث من المقربين لنا، لكني أتمنى أن نعي أن التنمر قد يحدث من أي شخص مهما كانت درجة قربه، من أخيك الذي يهزأ من أرنبة أنفك، ومن والدك الذي يخبرك يوميًا أنك إنسان فاشل، من أصدقائك المقربين الذين يلقبونِك “بكابوزة” لأنكِ ممتلئة، ومن زوجك الذي ينظر إلى كليب هيفاء بحسرة قائلاً “شايفة النسوان؟!”.

 

أثر تنمر المقربين قاتل نفسيًا، لأن أول بيئة داعمة وموفرة للحب ومانحة للثقة بالنفس هي السبب الرئيسي في شعورك بالنقص، فيتسرخ لديك يقين بأنهم على حق، لأن من المستحيل أن يكذب عليك من يحبك، فتصبح مواجهة التنمر من الغرباء أصعب، ولذلك لا تبكِ وحيدًا، لا تسامح باسم الحب، واجه التنمر من المقربين بأكثر من العتاب الخفيف، فمن الحب ما قتل.

المقالة السابقةكابوس العنف ضد المرأة.. متى ينتهي؟!
المقالة القادمةمن أنت؟!
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا