المشهد الأول منتصف أغسطس
التجمع الخامس/ القاهرة
فتاة تقف في الشارع تتعرض لمحاولة تحرش مرتين على التوالي، لم تصمت الفتاة، وقررت أن تلتقط فيديوهات لكلتا المحاولتين وأن تنشرها على صفحتها على فيسبوك، كوسيلة للاعتراض -من وجهة نظرها- على ما حدث معها، لكن بعد عدة ساعات تحولت حالة الفتاة إلى قضية رأي عام على مواقع التواصل الاجتماعي، انقسم فيها المجتمع ما بين مؤيد ومعارض، فهناك من رأى أنها “أفورت” وأنها كان عليها الصمت كما تفعل غيرها من الفتيات في المجتمع، والبعض رأى أنها هاوية للشهرة وأن ما تعرضت له مجرد معاكسة بسيطة، بل و”لطيفة”، بينما رأى الآخرون أنها على حق في ما فعلته، خصوصًا أنها تعرضت للمطاردة بالسيارة من رجل غريب لا تربطها به صلة بينما تنتظر وسيلة مواصلات إلى بيتها أو عملها.
المشهد الثاني 20 أغسطس (أي بعدها بـ5 أيام)
10 ولايات أمريكية/ الولايات المتحدة الأمريكية
بعد واقعة الفتاة التي أطلق عليها الجميع “فتاة التجمع”، يأتي خبر هامشي بالنسبة للبعض، لا يهتم به في العالم العربي سوى محبي السنيما الأمريكية، بينما يهز الأرجاء في أمريكا، وهو تعرُّض فيلم النجم الأمريكي الشهير “كيفن سبيسي” الجديد للخسارة الفادحة، حيث لم يجن بعد طرحه في 10 ولايات أمريكية سوى 128 دولارًا، وهو رقم يمثل فضيحة في سنيما هوليوود، أما السبب الحقيقي وراء ذلك الرقم الغريب هو مقاطعة المجتمع الأمريكي لأفلام ومسلسلات “سبيسي” بعد اتهامه بعدد كبير من وقائع التحرش على مدار عامين.
وعلى الرغم من تقديم النجم الكبير اعتذار مكتوب يطلب فيه غفران ما بدر منه، وأنه كان صغيرًا عندما حدث ذلك التحرش، وأنه نادم على ما فعله حقًا، مؤكدًا أن حياته الشخصية شأن لا يخص أحد، فإن ذلك لم يؤثر فيهم على الإطلاق، ولم يلتفت أحد إلى تاريخه الفني الهائل، بما في ذلك حصوله على جائزة الأوسكار مرتين، ولم يهتم أحد بأن “سبيسي” بطل أحد أهم المسلسلات السياسية في تاريخ الولايات المتحدة هو “house of cards”.
رأى الجميع ضرورة عقاب “سبيسي” اجتماعيًا قبل أن يُعاقب جنائيًا، حتى لو كلفهم الأمر خسارة 35 مليون دولار، كما حدث مع شركة “نتفليكس” التي أوقفت التصوير في مسلسل “سبيسي” الشهير، وتقبلت الشركة الخسارة الضخمة بصدر رحب خوفًا من خسارة جمهورها.
بين الولايات المتحدة الأمريكية ومصر.. ملايين السنوات الضوئية
قد يبدو أن الفرق بين المشهدين زمنيا 5 أيام فقط، وجغرافيًا مساحة شاسعة من البحار والمحيطات والأراضي، ولكن في الحقيقة الفرق بينهما هو ملايين السنوات الضوئية، بين مجتمع اعتبر الحرية الشخصية للفرد هي الدين الحقيقي الذي يجب أن يؤمن به الجميع، والاحترام هو دستور التعامل، ويرى أنه لا تمييز بين المواطنين على أساس الجنس أو الدين أو اللون، فالكل سواسية في الحقوق والواجبات.. ومجتمع لا يعرف معنى الحرية الشخصية من الأساس ويتجاهل مبدأ الاحترام في التعامل، أما التمييز بين أبنائه فهو السائد والمرأة هي أول المستهدفين حتى لو لم يُعتَرف بالأمر، فهي في الثقافة الشعبية مواطن من الدرجة الثانية.
مصر الأولى عالميًا في التحرش. والأولى في إيجاد التبريرات للمتحرش ولوم الضحية.
في الولايات المتحدة الأمريكية أو بلد الحريات، لم يبرر أحد للممثل “كيفن سبيسي” ما فعله، لم يقل أحد “إنه معذور فهو يحضر الحفلات ويرى فيها النساء يرتدين الملابس المكشوفة”، أو “إنه لم يخطئ، بل النسوة اللاتي حضرن تلك الحفلات، وأصلاً إيه اللي وداهم هناك؟”، أو مثلاً “السيدات اللاتي قدمن بلاغات ضده غاويات شهرة”، أو “إنه يمتلك سيارة أحدث موديل ولديه أموال طائلة في البنك، فعادي ده شكله راجل جنتمال”.
لم يفعلوا ذلك كما يحدث مع كثير من النساء في مصر يوميًا، فلم يجدوا تلك التبريرات التي تقتل الضحية اجتماعيًا إلى جانب ما تعرضت له من معاناة جسدية ونفسية، لم يشوهوا سمعتها أو صورتها، أو يتهموها بالانحراف أو أنها التي سعت للأمر بنفسها، لم يجبروها على الصمت أو التنازل عن حقها في حياة آمنة، بل عاقبوه وعطلوا مستقبله الفني تمامًا لأنه لم يحترم نصف المجتمع الآخر.
أما في مصر فالفتاة التي وصمت بـ”فتاة التجمع” أغلقت حسابها على فيسبوك، ومنعتها والدتها من الخروج وطالبها أقاربها بالصمت التام والتوقف عن المطالبة بحقها، لأنها تسببت في فضيحة لعائلتها، وأصبح من السهل أن تتعرض لأي اعتداء، بينما صار من اتهمته أحد المشهورين الذين يسعى الجميع لالتقاط الصور معه! بالضبط كما حدث مع “فتاة المول” وكثيرات غيرهن.
إحنا في زمن المسخ.
“إحنا في زمن المسخ” جملة عادل إمام في فيلم “عمارة يعقوبيان”، هي الأنسب لمشاهد التحرش التي لا تحدث سوى في مجتمعنا، أصبح فيها الجاني بطلاً، والمجني عليها متهمة. مشاهد صارت تحدث بشكل يومي على مرأى من الجميع دون إحساس بالذنب أو الخوف أو الخجل، لا يُحترم فيها أهم معنى من معاني الحياة وهو الأنوثة، فأما أن يتم إقصاؤها وحجبها، أو لا تسير إلا ومعها “بودي جارد” يحميها، وفي كلتا الحالتين تفقد المرأة حريتها وتباعًا حقها في الحياة بشكل طبيعي بعد أن رآها البعض غرضًا مستباحًا.
ولم يكتفِ المجتمع بذلك، بل صار كالنعامة التي تهرب من الحقيقة وتدفن رأسها في الرمال عند ذكر كلمة تحرش، فيتحدثون عن حجج لا تسمن ولا تغني من جوع، مثل البعد الديني أو تقليد الغرب أو لبس الفتاة، بينما يتناسى الجميع أهمية تغيير وجهة النظر السائدة عن المرأة ودورها، التي لم تعد تتناسب مع تطور العصر، وإن أهم حقوقها على الإطلاق هو وجود مساحة آمنة لها في الحركة والعمل، وأن ذلك المطلب يتساوى في الأهمية في حقها في التنفس والطعام والشراب، كذلك ضرورة سَن قوانين رادعة لحمايتها، ونشر رسائل توعية بالأماكن العامة حتى يتغير تفكير أبنائه إلى أن المرأة لها الحق في الشعور بالأمان والاحترام وعدم الانتهاك مثل الرجل.
وحتى يتم القضاء على التحرش سنظل نقول “يا ليتنا مثل الولايات المتحدة عندما عاقبوا كيفن سبيسي على تحرشه بـ128 دولارًا فقط”.