ما بعد الألم 

179

 

بقلم: وفاء مرزوق

 

هناك لحظات محورية في الحياة، نعتبرها نقطة تحول؛ نغير بعدها اتجاهنا، أو نتخذ قرارات هامة، أو نختبر تغييرات عميقة. وتشكل هذه اللحظات هُوِيَّتَنا، وتُؤثر على المسارات التي نتخذها فيما بعد. وهناك العديد من الأمثلة على نقاط التحول تلك؛ كاختبار حدث مبهج كبير، الانتقال إلى مكان جديد، الانفصال، المرور بخبرة حزن أو خسارة.

وأعتقد من ضمن تلك اللحظات المحورية التي تعد نقطة تحول في الحياة؛ اختبار الألم، وخاصة ألم الفقد. كأنها حقبة زمنية جديدة فاصلة كقبل الميلاد وبعد الميلاد. الألم يشكل بداخلنا الكثير فلا نخرج منه كما دخلنا. فهو يترك بصماته على ذهننا وأفكارنا، وعلى قلبنا ومشاعرنا. وتظل ذاكرة الألم بداخلنا مهما مرت سنوات عليها، تسكن كشبح منتظرًا الظهور على السطح كلما سنحت له الفرصة.

الألم كالزلزال الذي يهز كياننا بالكامل، يؤثر على جسدنا وذهننا على حد سواء؛ كالإعصار الذي يجتاحنا، فلا ندري على أي أرض ستستقر أقدامنا مرة أخرى. في الألم تُمتحن معتقداتنا وقيمنا الجوهرية وإيماننا دَفعةً واحدةً. كل ما كنا نتشدق به في أوقات الراحة والرحب والسكون، يُمتحن في ذلك الوقت.

بعد خبرة الألم نتعرف على أنفسنا من جديد، وكأننا نرى أنفسنا للمرة الأولى. نتفقد أنفسنا لنرى ما الذي فقدناه وما الذي اكتسبناه. ودعني أزعم أنه حتى إنْ تشابهت خبرة الألم مع أشخاص آخرين، إلا أن كل فرد يتأثر ويتشكل بطريقة مختلفة عن الآخر. فنعم، يُشبه من الألم أربعين، لكنْ من أثره واحدًا فقط.

دروس الألم كثيرة، ومنها ما يشكلنا وما يُشوِّهنا. وحينما أكتب أن الاختيار في كلتا الحالتين بيدنا أعلم صعوبة وثقل تلك الجملة؛ والتي قد يستغرق العبور بها سنوات وقد تتخلَّلُها انتكاسات أيضًا، وكأننا نعود إلى نقطة الصفر لنجترَّ كل ما مررنا به من جديد.

 

الألم والحب وجهانِ لعُملة واحدة

في البداية كنت أظن أن الألم والراحة وجهانِ لعملة واحدة، وأن الحب والكُره وجهانِ لعملة أخرى مختلفة تمامًا. ولكنْ بعد خبرات متنوعة من الألم؛ أدركت أن الألم والحب هما وجها عُملة واحدة. فبقدر حبك يكون ألمك، وبقدر تعلُّقك يكون ألم الفراق. والتحدي هنا أننا بعد اختبار عصرة الألم لقلوبنا قد نختار التخلي عن الحب ونجده لعنة لا نعمة. وأننا سندفع ضريبة ذلك الحب في يوم من الأيام بالألم.

أو قد تكون الآلامُ المُحبِّة مُعزيةً لنا في أوقات الألم، ونظل متمسكين بالحب كرباط بيننا وبين المحيطين بنا، ونعلم أنه حينما يجيء وقت الألم ستكون ذكريات الحياة التي اختبرناها حاضرة لدينا لتعزيتنا. 

 

لا توجد وصفة سحرية واحدة صالحة للجميع

بعد الألم ندرك أنه لا توجد وصفة سحرية صالحة للتطبيق والاتباع للجميع. لكل واحد منا رحلته الخاصة جدًا في العبور من خبرة الألم والفقد. فمَواسمُنا ليست متشابهةً، هي مختلفة بقدر اختلاف البشر في خبراتهم الشخصية وصفاتهم. وما مروا به في حياتهم شكل بداخلهم الكثير من التشابكات والتعقيدات التي من الصعب الوصول لأبعادها بكلمات مُعلَّبة. 

 

مَنظور مختلف

هناك منظور من التعاطف يولد بداخلنا بعد خبرات الألم يجعلنا بالقدر الذي نشفق به على أنفسنا، نشفق ونتعاطف مع الجميع. الألم يُسهل علينا رؤية ألم ومُعاناة الآخر، ويجعلنا نقف مكانه ونرى العالم من منظوره وليس من منظورنا نحن. وكأن قلبنا يتشكل من جديد. وأعيننا تنفتح على رؤية مختلفة لم نكن مدركين لها، لنرى المصدر الذي ينبع منه تصرفات الآخرين والتي يكون البعض منها ناتجًا من ألم عميق. وكأننا نقول لأنفسنا: “لا يوجد شخص شرير بطبعه، ولكن هناك شخص تألم كثيرًا ولم يُنضجه ألمه بعد”. فكما ذكرت لك الألم قد يشكلنا، وقد يُشوِّهنا.

بعد الألم ندرك ما هو مهم وما هو ليس مهمًا في الحياة. فالألم يُعيد ترتيب أولوياتنا، ويجعلنا نختار حروبنا، ما يستحق الوقوف أمامه وما لا يستحق أن يأخذ مساحة بداخلنا. وكأن ذاكرة الألم تتحداك -بشكلٍ ما- كل يوم: “ما الذي تود أن تقضي حياتك فيه”. إنها معضلة الحياة، ما بين أنها تساوي ولا تساوي شيئًا في الوقت نفسه. بعد الألم سرعتنا في الحياة تختلف البعض منا يبطئ ليقف ويرى ويتأمل، والبعض يسرع ليلحق بأكبر قدر من الحياة. إننا مختلفون يا عزيزي.

الألم من النقاط الفاصلة والمُغيرة في الحياة، والتي لا يتشابه فيها أحد، لكل منا بصمته الخاصة والمتفردة، والتي تتعلق بشخصيته ومرونته النفسية وبعوامل كثيرة جدًا. والبعض يستطيع تجاوز ألمه ليتحول الألم إلى أمل. والبعض يقف مُراقبًا الحياة وهي تتسرب من بين يديه.

وأعلم أنه لا يوجد خطأ وصواب في الألم كخبرة مُغيرة للحياة، لكن أمنيتي الشخصية -لنفسي أولًا ولك يا عزيزي وعزيزتي المتألم/ة- ألَّا يعتصرنا الألم ويشوهنا ونظل تحت سلطته باجترار ذكرياته. بل أن نستطيع أن نختار الحياة ونحيا، ليتحول ما بعد الألم إلى حياة. أتمنى أن تكون الأحداث المُغيرة للحياة فرصةً للنضوج واكتشاف بُعدٍ جديد في أنفسنا وفي الحياة نفسها. وألَّا تكون تلك الأحداث المحورية في مسيرة الحياة نقطةً للتحول والرجوع إلى نقطة البداية مرةً أخرى؛ وكأننا نحيا في دائرة مغلقة.

 

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةالتكلفة قد ايه؟! 
المقالة القادمةوقفة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا