تعددت الأسباب وتعددت الظروف ولكن النتيجة واحدة.. فتاة يتملكها إحساس بالخزي والوصم والخوف من المستقبل، نتيجة تاريخ قديم أو ذكرى مؤلمة بعيدة بسبب الإيذاء الجنسي الذي تعرضت له.. تفقد معه كل الاطمئنان والرغبة في ممارسة حياة طبيعية، وتصبح حياتها دائرة في دوائر العزلة وجلد الذات على ما حدث، تفقد ثقتها في العالم وتفقد ثقتها في قدرتها على خلق مستقبل لها ترى فيه ذاتها عمود أسرة سويّة.. تخاف من التفكير في الزواج أو تهيئة نفسها على الأقل لتلك الخطوة الهامة في حياة أي فتاة مثلها، وقد تحاول التغيير وتدرك أنها بحاجة للعلاج والتعافي، ولكنها لا تعرف من أين تبدأ ومن يستطيع مساعدتها.
منذ عام 2008 تأسس برنامج “لؤلؤة” لخدمة الناجين من الإساءات النفسية والجنسية، وقدم برامج ومجموعات علاجية ومجموعات مشورة نفسية متخصصة لكل الحالات التي تأمل في العلاج والتعافي من صدمة الاعتداءات الجنسية.
في المكتب الواسع القائم بإحدى عمارات وسط البلد القديمة التقيت بالدكتورة: ميرفت روؤف مؤسسة ومديرة برنامج “لؤلؤة”، للحديث بشكل أكثر استفاضة وتوسع عن المركز وأهدافه ورؤيته والخدمات التي يقدمها للناجين من الإيذاء الجنسي، ومعها التقيت فريق برنامج “لؤلؤة”: ساندرا عادل مديرة مشروع برنامج “لؤلؤة”، والسيدة إيزيس سمير مديرة مدرسة “ميزرباك”.
وكان لـ”نون” هذا الحوار:
– في البداية لماذا “لؤلؤة” كاسم للبرنامج؟
الاسم جاء من الرؤية الأولية لمدرسة التدريب للتعامل مع المعرضين للإساءات، الذين عادة ما ينغلقون على أنفسهم ويختبئون.. هكذا اللؤلؤة المنغلقة على نفسها أسفل قاع البحر، حبيسة محارة ذات شكل غير جميل، ولإبراز جمال تلك اللؤلؤة عليك ببذل الكثير من المجهود لإخراج الجمال الكامن بداخل تلك المحارة.
– كيف بدأ المركز وما هي أهدافه؟
المركز في الأصل تابع لكنيسة قصر الدوبارة، وبدأ نشاطه عام 2008 بتأسيس مدرسة “ميزرباك” وهي أول مدرسة في الشرق الأوسط لإعداد الطلبة والقادة والرعاة لتأسيس مجموعات علاجات متخصصة للناجين وتأسيس منهج علاجي متكامل للناجين والناجيات، وإصدار كتب لتوعية الأطفال والآباء. يسير المنهج على أربعة مستويات لمدة أربع سنوات بواقع 10 أيام لكل عام.
توسع الأمر كثيرًا فيما بعد وبات المركز يقدم خدماته للمجتمع، فأسسنا مجموعات علاجية منهجية مختلفة عن مجموعات الدعم والمساندة، وتستمر مدتها لمدة 3 أشهر على التوازي أو متتابعين، وهناك أيضًا جلسات علاجية فردية وأيضًا يقدم جلسات مشورة علاجية.
هدف المركز في الأساس هو القدرة على التواصل مع الفتيات اللاتي حدث لهن اعتداءات أو إساءات جنسية، البداية كانت بملاحظة الفتيات اللاتي قد يبدو في سلوكياتهن أو طريقة تعاملهن أنه قد تم الاعتداء عليهن، وذلك بسبب الوعي الزائد للعاملين بالمدرسة بتلك الحالات وكيفية اكتشافها، وكانوا ينصحون الفتيات بالتقدم للمركز للعلاج من الصدمة أو للاشتراك بالمجموعات.
يقدم المركز أيضًا مدرسة لمساعدة الناجين في المجتمع المدني ورفع الوعي لدى العاملين بالمجتمع المدني بشكل عام، وأيضًا ورش علاج بالفن ودورات دفاع عن النفس.
والشيء الأهم أننا نحاول دومًا التواصل مع الحالات التي أنهت تدريبها والمتابعة المستمرة معها لتستمر في حياتها بشكل طبيعي، فنقدم لها دورات لتنمية مهاراتهم في مختلف المجالات، لنضعهم على بداية الطريق وإن كان ذلك على نطاق ضيق.
لو أردنا تعريف بسيط للصدمة “truma”.
هي حدث غير طبيعى يحدث في حياة الإنسان فيقوم بخلخلة كل الدفاعات والمسلمات التي كانت تشكل هذا الإنسان، ثم يضطر إلى اللجوء لدفاعات وأفكار أخرى ليستبدلها بالمسلمات القديمة، فالإنسان يعيش طوال حياته مؤمنًا بقناعات، كأن تذاكر تنجح أو إن اتخذت الطريق السليم سيرضى عنى الله وأنه يحافظ عليّ، وفجأة يأتي مثل هذا الحادث ليهز كل تلك القناعات وتأتي أسئلة مثل “لماذا أنا يا رب؟” وتنهار وقتها كل الدفاعات.. فالصدمة هي التي تحدث شلل لكل النظم النفسية التي تشكل الحالة.
– هل تردد على المركز حالات لفتيات كنّ مقبلات على الزواج وأعاقهم الإيذاء الجنسي بشكل أو بآخر؟
بالطبع، وهي الحالات الأكثر ترددًا على المركز بشكل عام، حيث يتملكهم الخوف والرهبة مما حدث لهن، ويشعرن دائمًا بأن عليهن تخطي ما حدث لهن، ولكن لا يعرفن كيف.. فتأثير الواقعة عليهن كبير جدًا.
– وماذا عن العاملين على الجلسات العلاجية؟ هل هم مؤهلون ومدربون للتعامل مع تلك الحالات أم هم متطوعون على درجة من الوعي بهذا الموضوع؟
بالتأكيد هم على درجة عالية من التأهيل والتدريب للتعامل مع حالات الاعتداء الجنسي وكثيرًا ما يكون القائمون على إدارة المجموعات العلاجية هم في الأصل من الحالات التي تعرضت لاعتداء وتعافت، ولديها رغبة في إدارة مجموعة، لتمرر من خلالها تجربتها وتطبق معها ما تعلمته في المركز.
– هل تردد على المركز حالات متزوجة بالفعل وتتعرض لإساءات جنسية من أزواجهن؟
يتردد على المركز العديد من الحالات المتزوجات بالفعل، ولكن هناك فرقًا كبيرًا في التعامل مع تلك الحالات، برنامج “لؤلؤة” في الأصل يتعامل مع الآثار النفسية المتراكمة نتيجة حادث معين حدث الفعل ونحاول إزالة تلك الآثار التي تعوق الحالة عن ممارسة حياتها بشكل طبيعي، أما فكرة أن تحمي السيدات أنفسهن من الإساءات الزوجية أو أن تقولن لا في وجه تلك الإساءات أو أن تحمي كل منهن حقها القانوني والشخصي، فهذا ليس تخصص المركز، وعندما تأتي حالة كتلك نقوم بتوجيهها إلى الجهات التي تستطيع مساعدتها للتغلب على مشكلاتها، لأنها في النهاية مشكلة حقوق مدنية.
– مع نسبة التحرش العالية في مصر، هل يتردد على المركز حالات تعرضت للتحرش الجنسي؟ وكيف يتم التعامل معها؟
التحرش الجنسي مختلف قليلاً عن الـtruma حيث إن الصدمة تترك آثارًا نفسية عميقة منذ الطفولة، وهذا بالطبع يختلف كثيرًا عن حادثة تحرش لشابة في العشرينيات أو امرأة في الثلاثينيات، كما أن هناك فرق في تعامل شابة كبيرة وتعامل طفلة صغيرة لا تعي ما يحدث لها من انتهاك، كما أن الموضوع لا يعتمد في الأساس على ماذا حدث بقدر اعتماده على طريقة تعامل الحالة مع الحدث وكيف تأثرت به، لمسة التحرش قد لا تدفع الفتاة بالضرورة إلى التدمير النفسي الذي يؤدي إلى أعراض انسحاب من الحياة والتقوقع والخوف من كل شيء، أما من يتعرضن لاعتداء جنسي خصوصًا في سن صغيرة يأتين لنا بحياة مدمرة بالكامل ورغبة دائمة في الاختباء.
– كيف يمكنكم قياس نجاح المركز من عدمه؟ وإلى أي مدى يمكن لمس هذا النجاح؟
في الواقع أنا لا أحب كثيرًا قياس نجاح المركز بكم الحالات ومدى شهرته، بل أقيسه بالشفاء الحقيقي ونسبة التعافي، وأن تأتي حالة في النهاية وتخبرني “أنا اتغيرت”.. هذا هو نجاحي.
– ولكن ماذا عن الصدى الذي قد يخلقه المركز فتجدي أن عليكِ توسيع نطاق المركز في مناطق عدة، أو افتتاح فروع أخرى في محافظات مختلفة، خصوصًا أن هناك بالفعل فتيات في المحافظات قد تعرضن لاعتداءات جنسية ودرجة الوعي والعلاج هناك نادرة جدًا؟
ما أقدمه لحالات الاعتداءات والإساءات الجنسية هو برنامج دقيق للغاية وtechnical، هناك حملات توعوية بشكل عام وهناك برامج دقيقة كما رسم لوحة مثلاً، تأخذ الكثير من الوقت والمجهود لترى النتيجة النهائية التي تريديها.. بإمكاني العمل على حملة دعاية تجعلني أصل ظاهريًا ولكن لا ألمس في النهاية التأثير المطلوب.
منذ أن بدأنا في عام 2008 وفي كل مرة كنت على يقين بأنها السنة الأخيرة للمركز ولن تأتي حالات جديدة، ولكن أفاجأ بأن السنة التالية تأتي أعداد كبيرة لأن في النهاية المأساة حقًا مؤلمة، نحن نتعامل مع فتيات سيصبحن فيما بعد أمهات ونواة لأسرة، فتخيلي أن يفعلن ذلك وهن محطمات نفسيًا، وما شكل الأبناء الذين ستربيهم أم بتلك النفسية غير المستقرة؟
– كيف يمكن معرفة أن الحالات قد وصلت للتعافي المطلوب؟ أو ماذا لو جاءت حالة تشعر أنها لم تختلف بعد العلاج وما زالت خائفة من المضي قدمًا في حياتها؟
في الأساس المجموعات العلاجية وما تقدمه هي سكة تغيير للأفضل، في كل مرحلة تكتشف الحالات شيئًا جديدًا، في كل مرة تتوصل الحالة إلى تغيير ما في أفكارها أو في نفسها.. يواجهن أنفسهن بأساس المشكلة ونقاط الضعف، وكيف يمكن العمل عليها وتحوليها إلى نقطة انطلاق جديدة في الحياة.
الأمر أشبه بعنق الزجاجة، في مرحلة ما قبل عنق الزجاجة تكون أفكار الحالة عن نفسها “لم يحدث لي شيء. لا يمكن أن ما حدث هو الذي يؤثر عليّ الآن. لا أستطيع النوم بسبب أفكاري المنصبة على ذات الحدث. أنا فاشلة. أنا قبيحة الشكل ولا أستطيع الخروج وعقد صداقات”.. إنه الشعور بالخزي والخذلان والخجل من النفس الذي يسيطر عليها.
أما بعد العلاج والمرور من عنق الزجاجة تصبح الأفكار كالآتي: “لقد تقبلت نفسي جيدًا. لقد تقبلت ما حدث لي. لقد خسرت العديد من الأشياء ولكن ما زلت أملك مستقبلاً أسعى لتحقيقه. أخاف من الزواج ولكن سأتزوج وسأنجب وأكوّن أسرة. من حولي يحبونني ولا يحكمون عليّ. سأعقد صداقات جديدة وأنفتح على الحياة. لم أعد خائفة”.
وهناك حالات تستطيع إيقاف العلاج في التوقيت الذي يناسبها ولكن في النهاية ما يتحكم بالعلاج هو كم المؤثرات الذي قد يحدث فيما بعد في الحياة العادية، وإدراك أنها في حالة التعرض لأي مشكلة نفسية أو اكتئاب تستطيع أن ترجع للمشورة لتتعلم كيف تحمي نفسها من تلك المؤثرات.
– ماذا عن عامل السرية في التعامل مع الحالات؟
هناك بالطبع عامل سرية وخصوصية عالية جدًا، من تعرضت لتلك الصدمة دائمًا ما تكون لديها تخوفات من الأشخاص الذين قد تبوح لهم بمثل تلك التجربة الحساسة، ولكن مع الوقت تستطيع اكتساب تلك الثقة مع كم الخصوصية والسرية التي تلمسها بنفسها وتشعر بدرجة كبيرة من الاطمئنان، حتى أننا لا نضع على المكان أي شارات أو لافتات تشير إلى هوية المكان، حتى لا يشعر القادم أنه موصوم كلما رأى جملة “مركز لعلاج الصدمات النفسية والجنسية” أو حتى لا يحكم عليه أحد أو يحكم هو على نفسه بإحساس الخزي.
– الحالات التي تتردد على المركز كم تترواح أعمارها بشكل تقريبي؟
لدينا حالات من سن 11 عامًا (الإعدادية) إلى من دون الستين، الحالات التي تأتي في سن صغيرة كثيرة وهذا جيد، لأن إدراك الحالة لمشكلتها في هذه السن وإدراك أنها بحاجة إلى المساعدة لتغير من أفكارها وحياتها يساعدها على الاستجابة للمجموعة العلاجية والتعافي بشكل جيد.
ما هو تقييمك للمركز من 2008 حتى الآن؟
أنا حقًا سعيدة بما وصل له المركز حتى الآن؛ لقد سجلنا قصص نجاح كثيرة ونسبة الشفاء للحالات التي تأتي إلى المركز عالية وهذا يؤكد لنا أننا بالفعل نسير على الدرب الصحيح، كما أننا صورنا العديد من الأفلام القصيرة لفتيات تعافين بالفعل وتغيرت حياتهن ومررن من عنق الزجاجة، كما تخرج من المدرسة العديد من الطلبة والقادة الذين قدموا مشاريعهم الخاصة كمشروع “سيف” للتوعية عن الإيذاء الجنسي للأطفال بالتعاون مع اليونيسيف.
– كيف يمكن أن يتواصل معكم من لديه أي مشكلة متعلقة بالإساءات الجنسية، خصوصًا مع عدم وجود دعاية تقريبًا للمركز؟
أعترف أن تلك حقًا مشكلة نواجهها، وأن اعتماد المركز بشكل أساسي يقوم على نقل الحالة لتجربتها لحالة أخرى وتنصحها بالمركز، وإن كنا مؤخرًا قمنا بتدشين صفحة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك لفتح نافذة تعريفية بالمركز ونبذة عنه، لمن تشعر بأنها بحاجة للتواصل معنا، كما وضعنا أرقام هواتف لسهولة التواصل مع المركز.
للتواصل مع مركز “لؤلؤة” لعلاج الصدمات النفسية والإساءات الجنسية يمكن التواصل على الأرقام التالية:
01226333911 \ 01276608803
أو يمكن زيارة صفحة مركز “لؤلؤة” على فيسبوك: أضغطي هنا