التحقت بالكلية في سن صغيرة، 18 عامًا لم تكن كافية في نظر الكثيرين لأن أترك أسرتي بالإسكندرية وألتحق بكليتي العريقة بجامعة القاهرة، خصوصًا بعد مروري بظروف وفاة والدي قبلها ببضعة أشهر، ولأن كانت كلية العلوم السياسية كانت حلم حياتي، صممت على الالتحاق بها، غير عابئةً بكل التحذيرات التي يرددها الجميع على مسمعي.
وحقيقةً كنت أشعر بأن كل هذه التحذيرات مُبَالِغة للغاية، فالكلام عن أني سأكون وحيدة بلا ظل ولا مُرافِق ولا رقيب ينبهني للخطأ والصواب في دنيا جديدة وعالم أرحب لا يشبه الثانوية البتة، كلام لم يقنعني بضرورة التخلي عن حلم حياتي، لأن أمي عوّدتني منذ الصِغر على الاعتماد على النفس، وإنما ما كان يُزعزِع كياني ويثير حفيظتي فعلاً، هو تساؤل وجَّهه أحدهم لأمي قائلاً: “هتسيبيها تسافر لوحدها؟ دي بنت مش ولد!”، لترد أمي في حمية لحلمى ودفاعًا عنه “البنت بـ100 ولد”.
كانت سني حديثة بما يكفي لئلا أفهم ما السر في عدم اعتراف البعض بقدرتي على الحياة بمفردي في محافظة أخرى، تفصلني عن بيتي بثلاث ساعات بالقطار، فقط لأنني فتاة ولست شابًا، ولماذا يجب أن نرد عليهم في كل مرة بجملة مفاداها أن المرأة يمكنها أن تكون بـ100 رجل؟ لماذا لا نقول إن الرجل بـ100 امرأة؟! لماذا القوة حكر دائمًا على الرجال؟! لكن عقلي الصغير لم يكن ليستطيع أن يُنتِج أي إجابات على أسئلة من هذا النوع آنذاك، حتى سافرت إلى القاهرة وعشت بها لمدة ليست بقصيرة، كانت كافية لتغيير شخصيتي وإثقال تفكيري بما يُمكِّنني من الإجابة عليها.
أعترف أنني كابدت ويلات بمفردي، وأنه قد مرت بي لحظات من اليأس تكفي لأن تهد الجبال، لولا دعم أمي المستمر بإخباري بأني أُجاهِد في طلب العلم وأسعى للحلم، وأنني قوية بما يكفي لأجري خلفه، وهذا حقي كإنسان، وحقي ليس حكرًا على “جندر” معين، لكن هذا لم يكن آخر عهدي بالقصة.
دخلت الكلية وكوّنت صداقات كثيرة، إلى أن دق قلبي لفتى بعينه، لكنه لم يبادلني نفس الشعور، فظللت أحبه سرًا تحت ستار الصداقة، آملةً أن يأتي اليوم الذي يشعر فيه بما يعتمل في قلبي، بلا فائدة، فأسررت لصديقة أنني أنوى إخباره، فعنَّفتني بشدة قائلةً إنه لا يصح لامرأة أن تُعبّر عن حبها لرجل في البداية، يجب أن يبدأ هو أولاً، وحين سألتها باندهاش مَن وضع هذا القاعدة الغبية، لم تعرف بمَ تجيب، فقررت أن أفعلها، وليتني لم أفعل! لأنه أخبرني أنه يراني كصديق، لما أفعله معه من “جدعنة”. وبين قلبي المكلوم وعذره هذا، توصلت إلى الإجابات التي ظلت تؤرقني قبل ذاك الموقف بأكثر من عام.
(2)
كنا في جلسة سمر نتحدث عن الأيام الخوالي ونعبث بألبومات الصور، حتى وقعنا على صورة له مع شلة قديمة، وحين سألته لماذا لم يعد يراهم، أخبرني أنهم كانوا دائمي السخرية منه، لأن خديه يشوبهما حمرة إذا ما قالت له حبيبته كلمةً حُلوَة، ويرونه أبلهَ لأنه يرفض مشاركتهم الحديث العيب المُتَدَوَال بين المراهقين حديثي العهد بالشباب، كانوا يسخرون منه لأنه -على حد قولهم- يتسم بحياء امرأة، ولذلك فهو لا يصلُح لمصادقة الرجال.
(3)
كُنا نجلس على الكورنيش، نُحدِّق في البحر ونلتهم الآيس كريم، لتظهر أمامنا أسرة من أب وأم وثلاث فتيات صغيرات، يجرين ويتضاحكن بمنتهى المرح، ويجري ورائهن أبوهن، وتبدو على ثغره ابتسامة واسعة وهو يحمل كرة وردية صغيرة يتقاذفها معهن، وحين وقعت إحداهن جرى عليها في لهفة واحتضنها بشدة، لأجد صديقتي تفغر فاها وتتساءل باندهاش “هو فيه راجل في الحقيقة كده؟”، وحين سألتها عن مغزى سؤالها أجابت بأن هذه هي المرة الأولى التي تجد فيها أبًا حنونًا يلعب مع طفلاته بهذه السعادة، فرددت بأن هذا طبيعي لأنه أبوهن! فقالت “لا.. ليس طبيعيًا أن يكون رجلاً حنونًا على أولاده.. إن الأم وحدها من تضطلع بالحب والحنان والرعاية.. وإلا لما كانت الجنة تحت أقدام الأمهات”.
(4)
يربط الكثيرون بين “الجندر” والصفات الإنسانية، وكلمة “جندر” تعنى النوع، أو مجموعة الصفات البيولوجية التي تُفرّق بين الذكورة والأنوثة، لكنها لا تعنى أبدًا بالدور الاجتماعي أو الصفات الإنسانية، فالصفات تختلف من شخص إلى آخر، لا من نوع إلى آخر، فيمكن لرجل أن يكون أكثر حنانًا من امرأة، ويمكن لامرأة أن تكون أكثر قوة وشجاعة من رجل، ومع هذا يظل الكثيرون يُنمِّطون صفات الرجال على حسب نوعهم “جندرهم” وليس على حسب إنسانيتهم، بل إن كلمة “جندر” في حد ذاتها استُخدِمَت بشكل خاطئ للدلالة على الأنثى وحدها.
يربط البعض بين الرجال والقسوة والغِلظة والمروءة والشجاعة، ينفون عنهم الحنان الفيّاض والحياء، ويطبعونهم بالجرأة الشديدة، وبالخيانة التي تجري في عروقهم، وبعدم قدرتهم على رعاية أطفالهم أو منحهم الحب والحنان، وفي المقابل يتوقعون من المرأة أن تكون كائنًا يفيض عذوبة وضعفًا بشكل مائع، يندهشون إذا ما أبدت معرفتها بشيء يُصنّف على أنه عيب أو خطوط حمراء، لأنها يجب أن تغرق في الحياء المفرط، أو إذا ما اتسمت بالـ”جدعنة” والقوة النفسية والقدرة على الاعتماد على النفس، يتوقعون منها أن تظل قادرة على منح الحب غير المشروط للأطفال والمنزل دون القدرة على إبداء الشكوى أو إظهار التعب، فقط لأنها أنثى، فدورها الاجتماعي في الأمومة يُحتِم عليها هذا، بينما يُنمِّطون الدور الاجتماعي للرجل كأب، على أنه لا يعنيه سوى الإنفاق على الأسرة، غير قادر على العطاء سوى بالمال.
إن الصفات إنسانية، والفروق فيها فروق فردية فحسب، فالقدرة على الحب تختلف من شخص لآخر وليس من نوع لآخر، وكذلك القوة والصبر والخيانة والجرأة.
ليتنا نستطيع أن نفهم أن هذه التنميطات هي ما تُرسِّخ في عقول المرأة والرجل التشوهات الإنسانية التي نراها في تعاملهم مع بعضهم بعض، ليتنا نستطيع أن نرى أن الصفات لم تكن يومًا بالـ”جندر”.