كتبه: محمد فوزي عبد الرحيم
- توازن
في اليوم الأول من الصف الأول الثانوي، اعتاد الطلبة على فوضى اختيار المقاعد، وعلامات فرض السيطرة، وتشكيل المجموعات المختلفة التي يقودها عادةً صفوة طلاب الفصل؛ فيُصبح هناك ما يُدعى بـ”شِلّة” فلان، ويكون فلان متفوقًا، و”شِلّة” عِلان، حيث يكون علّان قويًا أو بمعنى أصح؛ بلطجيًا مُهيمنًا، متمردًا على الأساتذة والطلبة على حد سواء.
ولكن .. في ذلك اليوم، لم يحدث شيء مما سبق؛ بل ظل الجميع جلوسًا في صمت من الصدمة التي ساقها إلينا أحد الأساتذة، عندما قال بابتسامة تشفٍّ إن مادة العلوم لن تكون مادة واحدة، لكن ستكون ثلاثة مواد ضخمة: الفيزياء، والكيمياء، والأحياء.
وعندها .. سمعت لأول مرة لفظ “التوازن”، في سياق مختلف عن سياق ميزان شراء الخضروات لوالدتي في صبيحة يوم الجمعة.
كان أستاذ مادة الفيزياء ذا حِكمة، يختلف عن أقرانه من الأساتذة، فقال إن التوازن هو كل شيء، بل هو أهم شيء على الاطلاق؛ سواء كان في نظام شديد الضخامة كالكون، أو نظام شديد الدقة كالذَّرَّة والإلكترونات، أو حتى -وهو الأهم- نظام شديد الغموض وهو المشاعر الإنسانية.
فالكون -أو بالأحرى مجموعتنا الشمسية- ترتبط بأكملها بقوة “جذب” الشمس لها. ولكن، كان السؤال: لماذا لا تلتصق الكواكب بالشمس إذا كانت تسيطر عليها بقوة جذبها الرهيبة؟! .. قال الأستاذ حينها إن السبب هو شيء يُسمى “قوة الطرد المركزية”، وهي القوة التي تنتجه من دوران الكواكب حول الشمس وحول نفسها، وهي تُعادل قوة جذب الشمس ولكن في الاتجاه المعاكس. وبذلك، تُصبح الكواكب مستقرةً على مسافة ثابتة من الشمس؛ فالشمس تجذب بقوة في اتجاه، وقوة الطرد تجذب بالقوة نفسها في الاتجاه المضاد.
ولو تصورنا أن الشمس هي ضغوط الحياة الجاذبة لنا .. فلو توقفنا عن الحركة لابتلعتنا! .. فالتوازن إذن ينبع من الحركة الدائمة. والحركة دائمًا ما تكون ذات هدف. وعندها يكون السؤال: ما هو الهدف من الحركة؟ وما الدافع الذي يُساعدنا على الحركة.. من أجل تحقيق التوازن؟
- الغاية والوسيلة
ينقسم تعريف “الغاية” إلى قسمين حسب الزمن:
فهي قبل الوصول إليها؛ يُمكن تسميتها بـ”الهدف من الرحلة”.
وبعد الوصول إليها وتحقيقها؛ يُمكن تسميتها بـ”نتيجة الرحلة”.
والوسيلة: هي طاقة التوازن المطلوبة أثناء خوض تلك الرحلة.. ويُمكن تسميتها بـ”الدافع”.
ما الذي يدفعنا تجاه تحقيق الهدف لجني ثمار نتائجه؟ ربما الرغبة في النجاح، أو الهروب من الفشل، أو حتى التمتُّع بنتائج النجاح سواء كان الثراء أو الشهرة، أو حتى إثبات الذات للآخرين. ولكنها دوافع وقتية، مُصمَّمة خصيصًا لكل هدف على حدا، ولا تُعبر عن حقيقة ما نشعر به حقًا؛ فكيف يستقيم أن يتم تعريف السبب بناءً على النتيجة؟
لذلك نرى أن الدافع الحقيقي الذي يُحقق التوازن، هو دافع مُتعالٍ على النتائج؛ وهو دافع “الحب”، حب الرحلة، بغض النظر عن نتائجها.
ففي حالة الفشل، لن يخفت دافع الحب، بل سيكون مُحفزًا للمحاولة مرة أخرى. وفي حالة النجاح، سيكون الحب دافعًا للاستمرار، وفي حالة تأخر النتائج سيكون الحب رفيقًا يُعين النفس على تحمُّل لوعة الانتظار. نحتاج إلى أن نحب أنفسنا، وأن نرى أنها تستحق خوض مغامرة الحياة. نحتاج إلى أن نحب أنفسنا، بالقدر الذي يمنع جلد الذات في حالة الفشل. نحتاج إلى أن نحب أنفسنا بالقدر الذي يجعل من النجاح أمرًا متوقعًا. نحتاج إلى أن يكون الحب هو الغاية، والوسيلة؛ وعندها سيتحقق التوازن.
وسنتحرك على مسافة ثابتة من ضغوطات الحياة بحركة انسيابية دائمة، دون توقف بسبب الخوف، أو تعجُّل بسبب اليأس. فالحياة في عمومها هي “حركة” دائمة.. ولا تتوقف إلا بالنهاية.
- التوقعات
استيقظ شاب من نومه صباحًا، وارتدى أفضل ملابسه، واجتهد في صلاته أكثر من أي وقت مضى أملًا في التوفيق؛ فاليوم هو يوم لقاء حبيبته، التي فعلت في صباحها مثله تمامًا. بداية علاقة عاطفية جميلة، مليئة بفوران الفضول، وخجل الاكتشاف، وألوان الانطباعات الأولى، وأحلام المستقبل المُشترك. تبدو الأمور على ما يُرام.. حتى يضرب تلك العلاقة عنصر “التوقعات”.
ما الذي يتوقعه كل طرف من الآخر، ومع مرور الأيام؛ تتزايد التوقعات بالتزامن مع زيادة التحديات، ويتحول الأمر إلى اختبارات يتم فيها تقييم استحقاق كل طرف للآخر.
الأمر مُطابق للتوقعات التي يضعها كل منّا تجاه نفسه: “هل سأتمكن من تحقيق الهدف؟.. هل لديّ القدرة على مواجهة أزماته؟..” .. “هل أنا جيّد بما يكفي؟”.
أين الامان الذي يُقدمه الشاب للفتاة، أو الفتاة للشاب، بألَّا يشعر بالخجل حينما يُخفق في تحقيق التوقعات؟ والأهم؛ أين الأمان الذي نقدمه لأنفسنا، والذي يضمن لنا حياة هادئة واستمرارًا في المحاولة في حالة الفشل، بدلًا من جلد الذات وكراهيتها؟
نحتاج دومًا إلى “الأمان” من أجل أن يستمر “الحب” كدافع لتحقيق “الهدف”.
- صديق مُقرّب
في لقاء تلفزيوني مع الممثل الشهير “وينتورث ميلر”، بطل مسلسل “Prison Break”، تحدث عن الطريقة الأمثل للنجاح في حياته، بعد سنوات عديدة من جحيم الفشل. حيث وضع فرضية بسيطة؛ أنّه إذا جاءه أحد أصدقائه، وقصَّ عليه قصة فشله في أمر ما، وكان رد الفعل هو تعنيفه ولومه والتأكيد على أن الفشل كان متوقعًا.. فهو لا يستحق النجاح، وليس جيدًا بما يكفي لتحقيق أهدافه.
ما الذي سيحدث؟ “سينتهي بي الأمر دون أصدقاء”. هذا ما قاله، وهو محق. فإن كانت تلك هي ردة فعلنا على إخفاقات أصدقائنا، فسوف ينصرفون عنّا. وهذا بالظبط ما نفعله مع أنفسنا. فإن كانت ردة فعلنا تجاه إخفاقاتنا هي التعنيف واللوم والتشكيك في قدراتنا، والحُكم بنهاية الرحلة.. فنحن أسوأ صديق لأنفسنا!!
فالصديق الحق يواسي، ويُحفِّز، ويدفع للمقاومة والمحاولة مرة أخرى..
فلنكن الصديق المُقرّب لأنفسنا!
فلنكن قوة الدفع التي تحفظ لنا توازن الحياة.
المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب