دفاعًا عن لقمة السم

521

في السوبر ماركت، دار الحديث حادًا بين إحدى البائعات وزميلتها، كانت الأولى تلمح للثانية بأنها قد ترحل قريبًا مُعللة ذلك بـ”أصل المكان هنا مش عاوز وجع دماغ، والموظف اللي مش هيستفيدوا منه صح يمشي أحسن له”، كانت الثانية تسمعها بمزيج من الرعب والخوف، بدا على ملامحها الكثير من الضيق.

 

الغريب أن تلك الشابة التي أراها للمرة الأولى كانت نشيطة بعكس كل السابقين، ولطيفة في الوقت نفسه، لم أتخيل للحظة السبب الذي قد يدفع زميلتها لتهديدها بهذا القدر من العنف، في اللحظة ذاتها وجدتني أتذكر تلقائيًا الإعلان الشهير الذي قرأته قبل أشهر عن الوظيفة التي تشغلها كلتا البائعتين، كان الراتب 1200 جنيه تقريبًا، مقابل العمل قرابة الـ8 ساعات، ستة أيام في الأسبوع، تقضيها البائعة واقفة قبالة الزبائن، مبلغ زهيد تتحمل مقابله سخافات الجمهور، وعمليات الاستبدال والاسترجاع المرهقة، الكثير جدًا من الغضب في وجهها نتيجة بعض البضائع التالفة، التي لا ذنب لها فيها.

 

لا أدري كيف تعاطفت مع الأولى وليس الثانية، نعم تخيلت كيف تقف بهذا القدر من الصلف والجبروت لتدافع عن البؤس، “إما أن تكون بائسًا جيدًا أو لا يجب أن تكون هنا، لا وجود للبائس المتنمر”، فجأة وجدتني أتذكر جداول الأجور، وأتساءل كم شخصًا يتقاضى رواتب هزيلة للغاية، مقابل جهد يستحق أضعاف الرقم! ولكن الأمر لا يتوقف عند هذه المرحلة، حيث يقترن العمل الشاق، والراتب الهزيل، بالكثير من الإهانة والتحقير، هكذا الأمر دائمًا، لن تجد وظيفة ظالمة إلا وقد اقترنت بالكثير من التقليل من شأنك، كأنما الأمر “باكدج”، بعد فترة فهمت، كيف يمكن لشخص بائس أن يتقبل بؤسه إلا إذا جرى إقناعه بشكل متقن أنه بالفعل بائس ولا شيء يناسبه سوى بؤسه الذي يرعى فيه ليل نهار.

 

الموقف بحذافيره تكرر مع عاملة النظافة الخمسينية، السيدة التي يصادف أن أراها تعمل بهمة ونشاط، رغم مشهدها المنهك ووجهها الشاحب، تلك السيدة تبذل الكثير جدًا من الجهد لتنزل من بيتها وتصل إلى محل عملها، رحلة عبر المواصلات يتخللها بالتأكيد مضايقات ومشاحنات، على الأقل من أجل الأجرة، أتصور كم مرة تعثرت في جمعها، كم مرة تعرضت للسخرية، تمامًا كتلك المرة التي وجدتها واقفة حائرة من أجل إنجاز حسبة بسيطة استعانت بي لأجل إنجازها، بعدما أرسلها العاملون بالمؤسسة التي تعمل بها لقضاء بعض الطلبات.

 

كانت حائرة بين النقود المعدنية التي تنساب من بين أصابعها، والحقائب التي تعيقها عن الانحناء لالتقاط ما سقط، في ذات الوقت الذي دفعت فيه من أموالها الخاصة لاستكمال الطلبات، لكنها وقعت في “حسبة برما”، هكذا وبمجرد أن رأتني هتفت “معلش يا بنتي ساعديني مش عارفة أحسب وخايفة مخدش فلوسي”.

 

هنا تعالَى صوت مشرفة النظافة الشابة “إنتي إيه اللي موقفك على السلم؟”، ازدادت حيرة السيدة ولم تدر ما الرد “إيه اللي إنتي شايلاه في إيدك ده؟” عاجلتها بالسؤال فأجابتها “فطار للأساتذة”، فإذا بالصوت يعلو أكثر ويتحول لصراخ في وجه السيدة “إنتي جاية هنا نظافة فقط مش ساعي كمان، إياكي تجيبي لحد حاجة تاني، اتفضلي، وإياك أشوفك على السلم”، هكذا أمرتها أن تلتزم السلم الخلفي كبقية العاملين في النظافة، فلا تظهر إلا لإنجاز عملها فقط ثم تختفي سريعًا في السلم الذي يشتهر لدى الكثيرين بـ”سلم الخدامين”.

 

هكذا ظللت أتقصَّى الثمن الذي تتقاضاه السيدة مقابل الذل، فاكتشفت أنها 1500 جنيه في الشهر، تتعرض للكثير من الخصومات، لأسباب واهية، أجر يومي يصل عقب الخصومات والضرائب وبقية الاستقطاعات، وأجر المواصلات إلى قرابة الـ30 جنيهًا في اليوم، لم يكن موقفها هو الأفظع، كان “الماستر” سين، في تلك الزميلة التي نصحتها فيما بعد بعدم البكاء أو الشكوى “متبينيش إنك زعلتي واشتغلي عادي واسمعي الكلام عشان تحافظي على لقمة عيشك”، هكذا مسحت السيدة دموعها بطرف كمها وواصلت العمل كأن شيئًا لم يكن.

 

“مش لاعب”.. الجملة الشهيرة التي لطالما تكررت في طفولتنا، بمنتهى الأريحية، خلال عمليات اللعب الحرة، حين لا تعود الظروف مواتية أو مناسبة تبرز الجملة الأقوى على الإطلاق “مش لاعب”، الكثير من الثقة أن هناك مزيدًا من الألعاب بعد، وأن الحياة لن تتوقف عند هذه اللعبة، طريقة تفكير ناضجة للغاية لا تلبث تضمحل مع الوقت، ليفقد أصحابها القدرة على الخروج بشكل لائق، من كل الأطر البائسة التي تسجنهم، وظائف وعلاقات ومواقف، حالة بائسة لا يضاهيها في البؤس إلا تلك الشخصيات التي كانت ولا تزال تدافع عن البؤس بدعاوى عديدة، صحيح أنها تحافظ على “لقمة العيش”، لأنفسهم وللآخرين بإقناعهم ضرورة الاستمرار في المسار المُهلِك، عقب عصر الكثير من الليمون، لكنها لقمة لا تلبث تغص في الحلق وتؤلم البطن وتقصف العمر سريعًا، تتحول مع الوقت إلى “لقمة سم” تقضي على الحلم والطموح والكرامة.. والحياة.

المقالة السابقةالزواج على نفقة الدولة
المقالة القادمةأنا أُدوِّن إذًا أنا موجود
رحاب لؤي
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا