حوادث تحرش مجمعة: ما لم أخبر به أحدًا

1917

لم أخبر أحدًا قط بما سوف أحكيه الآن، لا يتعلق الأمر بالخوف، أو الشعور بالخزي، فقط شعرت دائمًا أنها مسئوليتي وحدي، وأنني قادرة على إدارة أموري، مهما بلغت من السوء، هي تخصني أنا وحدثت لي أنا، ولا يستحق أن ينشغل بها سواي.

قطيع من الأطفال

“حفلااااااااااااااااه” انطلقت الجملة من حنجرة صبي صغير، عمره أقل من 10سنوات، قالها بنبرة الصياد الذي وجد فريسته أخيرًا، كانت نبرة واثقة، محفزة، مشتعله بالحماس. حدث هذا قبل 17 عامًا من الآن، كان يسير ضمن مجموعة من 15 طفلاً تقريبًا، في شارع جامعة الدول العربية، كانوا يشبهون القطيع في السلوك والتناغم، وعلى الرغم من معرفتي الجيدة بالشارع الذي لطالما زرعته جيئة وذهابًا طوال عمري، لم أر قط مشهدًا كهذا، علمت لاحقًا أنه لا يظهر إلا في وقت الأعياد.

فجأة وجدت الجمع من حولي، جميعهم يجتهدون ويتسابقون في نفس الوقت للمس المنطقة الحساسة لدي، كانوا يعلمون ما يفعلون جيدًا، كانوا يضحكون، ويتسابقون بحمية لإيذائي أكثر، رحت أركض فازداد عددهم وإحكامهم للدائرة الجهنمية من حولي. كلما توقفت، وأعطيت ظهري لسور الحديقة الواقعة في منتصف الطريق، سارع بعضهم إلى الداخل كي يواصل التحرش بي من بين فتحات السور! كان الأمر الأغرب هو تلك الوجوه الأكبر قليلاً، التي كانت تأتي لتخبرني “خلاص مش هيعملوا حاجة، يلا ياض إنت وهو من هنا” ثم لا يلبثوا أن ينضموا للقطيع بدورهم بمجرد أن أحاول المضي.

لم ينقذني يومها سوى ثلاثة مراهقين قرروا التوقف والتصدي لما يحدث، وأمَّنوا مروري حتى غادرت الشارع أخيرًا. لم أقص ما جري يومها لأنني خشيت على أمي من الحزن أو الشعور السيئ الذي عصف بقلبي لفترة ليست بالقليلة، ظللت صامتة، حزينة، مصدومة، أتساءل عن المغزى ووجه الاستفادة الذي قد يجنيه طفل من لمس مكان حساس لدى أنثى، أين المتعة؟ من علمهم ذلك؟!

المدير المحنك

“لما تخلصي شغلك يا ريت تنزليلي عاوز أعلمك شوية حاجات جديدة، أنا مبسوط منك جدًا” أغلقت سماعة الهاتف بينما قلبي يرقص طربًا، أخيرًا سيعلمني أحدهم شيئًا في هذا المكان. كنت حينها لا أزال طالبة بعد، أتدرب بتلك المؤسسة العتيقة لعلي أحظى بوظيفة عقب تخرجي، ظننت أنني بذلك أحجز مكانًا لي، وأنهم قد ينظرون إلى سنوات خبرتي في المكان، كنت أنهي محاضراتي كاملة ثم أسارع إلى هناك أواصل العمل حتى العاشرة مساء.

كنت متحمسة جدًا، أتحدث بشغف وأتعرف إلى الجميع بحرارة وابتسامة غامرة، وأتلمس التعلم من أي أحد في المكان، كان الجميع يعاملونني كأخت صغرى، لذا لم أتصور لحظة أن تلك الدعوة أكثر مما بدت عليه. انتظرت انتهاء اليوم وذهبت إلى المكتب، استقبلني بابتسامة لزجة، ثم سألني باستغراب “إنتي قاعدة عندك ليه؟ تعالي هنا عاوز أقولك على حاجة مهمة” مشيرًا إلى فخذه، الأغرب من طلبه كان ردة فعلي، حيث واصلت التعامل كأنني لم أفهم شيئًا، وأخبرته أنني مرتاحة في مكاني، وحين همَّ بالوقوف، مقبلاً عليَّ، وكان قبلها قد حاول الإمساك بيدي قبيل القيام، ارتجف قلبي وعلمت أن الموقف أكبر من أن أحتويه، لذا رحلت وأنا أخبره بأدب جم “متشكرة قوي!”.

شعرت بغضب شديد من نفسي، كان هناك شيء يمكن أن أفعله لكنني لا أعلم حقًا ما هو، لم يعلمني أحد كيفية التصرف في تلك الأوقات، كنت أعوض هذا بنظرة اشمئزاز أرسمها على وجهي وبصقة قبالته في الأرض كلما مر في الجوار. واصلت تدربي، خلال سنوات الكلية الأربع، بذلت قصارى جهدي، لكنني بمجرد تخرجي، تم ترقية المتحرش من مدير فرعي، إلى رئيس للمكان بأكمله، ورئيسي أنا أيضًا، أربع سنوات من العمل محاها بممحاة، حيث راح يضيق على كل شيء، يرفض عملي، يسيء لي، تحولت فجأة من الفتاة المجتهدة التي يشهد الجميع بجودة عملها رغم حداثة سنها، إلى الفتاة المنبوذة التي يتوجب عليها الرحيل، أو التذلل للمتحرش. هكذا اتخذت قراري ورحلت مودعة حلمي القديم وأربع سنوات من الكد والاجتهاد، لم يخفف عني سوى ذلك البيت من أشعار أحمد فؤاد نجم

طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا

القروي الساذج

كنت في طريقي إلى ساقية عبد المنعم الصاوي قبل 12 عامًا تقريبًا، لكنني ما زلت أذكر تفاصيل الحدث كاملة، وأواصل الدعاء على صاحب الفعلة حتى هذه اللحظة، كلما ارتدت وسيلة مواصلات، أما الدعاء “ربنا يبتليك بنفس الإحساس ويرزقك قلق شبه ده يا بعيد”. كنت داخل ميكروباص وكان البرد قارسًا بالخارج، في ذلك اليوم كنت أرتدي معطفًا من الجلد، ثقيل جدًا بخلاف طبقات ملابس كثيفة حيث إنني شديدة الشعور بالبرد، ربما لهذا لم أشعر في البداية بذلك العبث الخفيف الذي حاول أن يفعله الشاب القروي، حديث السن الجالس خلفي، مرتديًا جلبابه.

شيئًا فشيئًا شعرت أن هناك خطبًا، نظرت خلفي فوجدت يديه منحشرة في الكرسي الخاص بي يحاول لمس مؤخرتي بأصابعه. “إنت أهبل” قلتها بصرخة في وجهه فتراجع، بينما لم يسأل أحد من الركاب -كالعادة- عما حدث، أو ما هنالك، ربما بدت فعلة هذا الشاب الأقل قسوة، مقارنة بحجم الإيذاء في المرات السابقة، لكنها بالنسبة لي الأطول أثرًا، فما زلت حتى الآن أعاني من الشعور بأن أحدهم يتحسس مؤخرتي كلما جلست إلى مقعد في ميكروباص، لا أرتاح إلا إذا اخترت المقعد الأخير. وصل بي الأمر أنني عقب أكثر من 12 عامًا، أشعر شعورًا وهميًا بأن أحدهم يفعلها، في المرة الأخيرة كان الشعور قويًا فاستدرت لأصفع صاحبه لكنني لم أجد أحدًا خلفي، المقاعد كلها فارغة ولا يوجد أحد أصلاً، هنا علمت أنني أعاني هاجسًا قويًا تركه لي ذلك الفسل يثير توتري كلما جلست في مكان وهناك أحد خلفي!

المحترم أبو نظارة

عادة ما أخشى الإيذاء في الميكروباصات من الخلف، لكن هذه المرة لم أتوقع لحظة أن هذا الشاب الوسيم، المهندم، حليق الرأس، منمق الثياب، قد يتحرش بامرأة حامل مثلي في شهرها الثامن! ظللت أقول لنفسي ليس معقولاً، بالتأكيد لا يقصد، حتى وجدت يده تتحسس بطني من الجانب بتردد.

نظرت له في البداية ما معناه توقف، لكنه اعتبر ذلك تشجيعًا على ما يبدو، في تلك اللحظة لم أتمالك نفسي إلا وقد أمسكت بيديه في ثقة، لأبعدها وأضعها في الموضع الصحيح، كأنه طفل، ونظرت في عينيه مباشرة وقلت له “العملة الوسخة دي إياك تعملها في حقي أو حق واحدة غيري تاني، احترم نفسك عشان متتهزأش وسط الناس”، لم يسألني أحد ما هنالك، ولم يتدخل أحد، تظاهر الجميع أنهم من الصم، وحين راح ينكر ويتساءل عما فعل أخبرته “إنت عارف عملت إيه كويس”.

لكنني شعرت أنني لم أحصل على حقي منه، لذا نظرت في وجهه مباشرة وأخبرته بنبرة واثقة جدًا مرة أخرى “أنا مش فاهمة وجه الاستفادة اللي ممكن تستفيده لما تعمل حاجة زي دي، بس كل مرة هتعمل كده هتتفضح وهتتجرس أكتر من دلوقتي كمان”. ارتحت قليلاً، خصوصًا حين أوقف الميكروباص ورحل، وارتحت أكثر حين رحل بقية الركاب من الصامتين الأبديين الذين يصمتون عن إيذائي وإيذاء غيري، شعرت أنني تخلصت من كيس قمامة كان يثقل كاهلي، أطحت به بعيدًا.

التحرش للجميع

لا أعرف فتاة في محيطي لم تتعرض للتحرش بدرجة من درجاته، المصيبة في كل مرة ليست في الفعل ذاته، فالشر في كل مكان وزمان والكل عرضة للإيذاء سواء كان تحرشًا أو سرقة أو قتلاً أو غير ذلك، المصيبة في كل مرة هي ردة الفعل، من الضحية ومن المحيطين، في المرة الأولى، لم أملك التصرف لحداثة سني وصعوبة الموقف، لكن كل سيارات الشرطة التي مرت بجوارنا لم يفكر الأمناء داخلها في التوقف لحظة من أجل إنقاذ الفتاة الواقعة داخل الدائرة، في الواقع لم يفكروا في إيقاف تلك الجحافل إلا حين خرج الأمر عن السيطرة في السنوات التالية وأصبح اسم الشارع وأحداثه صداعًا إعلاميًا.

أما في حالة المدير فقد اكتشفت أنني لم أكن وحدي الضحية، في الواقع لم تسلم منه فتاة تقريبًا في المكان، وقد قررت واحدة أخيرًا أن تحرر محضرًا بحقه، لكنها لم تستطع إثبات ما جرى، ورغم علم الجميع بقذارته ما يزال يمارس عمله حتى الآن، وبالتأكيد مهامه في التحرش، أما أنا فقد قررت ألا أترك حقي مرة أخرى.

أعلم أن التحرش لن يتوقف أبدًا في ذلك البلد، بكل أشكاله، وأنا متمسكة بقراري في عدم الحكي لأنني لن أعرض نفسي لتعليقات مستفزة، ولأن الحكي لن يشفي الغليل، لكنني بالتأكيد سأنتقم في كل مرة، بعد أن بت أعلم التصرف الصحيح، فالمتحرش حقًا ضعيف، مهزوز، يخشى الصوت العالي، ويكره النظر المباشر في عينيه، يتغذى على الشعور بضعف ضحيته، خوفها وخشيتها من الفضيحة، يتغذى على تعاطف المجتمع وصمته ومباركته للفعل باعتباره “فحولة”زائدة.

اقرأ أيضًا: فيلم Pink.. دليل حماية النساء من التحرش

المقالة السابقةاطمئن لست وحدك.. 5 أفلام أبطالها مثلك يُعانون من القلق
المقالة القادمةالقلب العاجز
كاتبات

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا