أن تهزم كل المخاوف داخلك.. لا مكسب في الحياة أكبر من ذلك، تهزم الخوف من الوحدة/ الفقر/ المرض/ العوز/ الألم/ العجز/ الموت/ ما بعد الموت، لن تكسب في الحياة أكثر من ذلك، لا مال لا سلطة لا نجاح لا شهرة يمكنها أن تقتل مخاوفك، لا شيء خارجي عنّا يستطيع أن يهزم ذلك الوحش الرابض بداخلنا، متمثلاً في خوف بعينه يكون طاغيًا ومسيطرًا، ويلتهم كل لحظة قطعة جديدة منّا.
تبقى المخاوف شرسة.. يطال الوحش روحك، فيلتهمها، وفي المقابل نحن أيضًا نلتهم، نلتهم كل ما نتخيل أنه يمكنه أن يهدئ من شراسة هذا الوحش، نلتهم المال، نلتهم العمل، نلتهم العلاقات الإنسانية التي نتعمد زيادة عددها كشعور فاشل بالأمان. نهرب من مكان لآخر، من علاقة لأخرى، من وضع مهني لآخر. نهرب بالانخراط في الأكل أو الانغماس في العمل، أو حتى النوم، نلتمس في كل تغيير أو محاولة هروب تهدئة للمخاوف، أو محاولة الشعور بأن هذا الفراغ بداخلنا سيمتلئ ولن يلتهمنا في النهاية.
كم يلزمنا من الجهد لنعرف أن الحياة هي مجرد رحلة! رحلة نتخلى فيها عن أشياء لنكتسب أشياء أخرى، كم يلزمنا من الجهد لنعترف لأنفسنا أن الأشياء التي نفتقدها وتلك التي نكتسبها هي صفات، بعضنا -على سبيل المثال لا الحصر- يصبح أطيب وأطهر، والبعض الآخر يصبح أشرس وأطغى، وذلك كل ما في الأمر، وكل ما سوى ذلك هو علامات خادعة ومضللة، كل ما سوى ذلك يتركنا في لحظة من لحظات حياتنا أو بعد انتقالنا من الحياة، كل ما سوى ذلك يتركنا أو نتركه مهما تكبَّدنا من جهد وعناء في سبيل الحصول عليه.
كم يلزمنا من الجهد لنرى الأمر بلا خداع ولا زيف ولا أهواء طاغية تسيطر على صحة نظرتنا للأمور، لنعرف فقط كيف نفاضل بين ما نود اكتسابه وما نرغب في فقده، لأن فقده سيمثل المكسب الحقيقي؟!
في فيلم “الأصليين” تأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، أقع في فتنة المشهد الأول من الفيلم، والذي يصور البطل ماجد الكدواني وهو يتجول في إحدى الأسواق ويجر الكثير من الأغراض والسلع التي سيشتريها، يفاضل بين أنواع مختلفة من اللانشون ليشتري نوعين أو ثلاثة من صنف واحد، لأنها أطعمة ومذاقات مختلفة، يراجع مع زوجته على الهاتف ما اشتراه، وما استبعده من قائمة المشتروات، لأنهم في المرة السابقة لم يستخدموه وألقوه في سلة المهملات، خلال مشهد واحد تجد نفسك كارهًا بعمق لتلك النزعة الاستهلاكية التي أصبحت تمثل نسبة كبيرة مما هو حولنا.
يسبق المشهد تعليق صوتي يتحدث خلاله خالد الصاوي عن حياة الدواجن، كيف تسير وإلامَ تهدف، يقول إن الدواجن ليست هي الدجاج فقط، ولكنها هي كل كائن حي تم ترويضه وتهذيبه ليأكل ويشرب ويمارس عملياته الحيوية بلا خروج عن المألوف يُذكر في حياته، كل ما يُستأنس من الكائنات الحية.
وهكذا بنسبة كبيرة أصبحنا دواجن، نهوى العيش في مربعات أسمنتيه، ولكننا نبذل الكثير من الجهد لنحصل عليها بمساحة كبيرة مناسبة، نبذل الكثير من الجهد المادي لكي نجعل جدرانها تظهر بمظهر معين وألوان محددة، نبذل الكثير من الجهد لنوفر فيها كل وسائل الراحة والكماليات الممكنة، ونبتكر لنجعل سجننا الأسمنتي مبهرًا قدر الإمكان في أعيننا، وأحيانًا يزيد الأمر تفاهة برغبتنا في أن نجعله مبهرًا في نظر الزائرين العابرين، ثم نعتاد عليه ويصبح اعتياديًا جدًا وربما مملاً.
كنت أنظر للعمارات شاهقة الطول وأتساءل، كيف أصبحت الحياة هكذا؟ ولكن حتى ما نستنكره في لحظة نقبله في الأخرى، لأن هكذا أصبحت وتيرة الحياة، هكذا فُرض علينا أن نحيا، هكذا تم تدجيننا.. فقبلنا وانصعنا، وربما يكون الخروج على كل ذلك متمثلاً في الهزيمة الحقيقية للمخاوف، ذلك الانتصار الذي يجعلنا مثلاً نترك عملاً نُفني فيه أعمارنا لكي ننطلق في رحلة بحث عما يخفى علينا من حقائق الحياة.