أعرف من طفولتي وبحكم قراءاتي النهمة للروايات ومشاهدة الأفلام خاصة الأجنبية منها، أن الأمراض النفسية حقيقة واقعة لا نقاش فيها، تعددت مظاهرها وأعراضها وتم تناولها بشتى الأشكال، سواء العلمي أو الرعب أو الدرامي أو الكوميدي، ولكن ما اكتشفته عن نفسي مؤخرًا أنني لا أتخيل الواقع فعلًا كما يتم تصويره في الأعمال الفنية والأدبية.
لأقرب الصورة بشكل أوضح، رغم اعترافي بالأمراض النفسية، بل ورغبتي في أثناء دراستي الثانوية أن أصبح طبيبة أمراض نفسية، إلا أن كل ما كان يدور في ذهني وقتها وحتى فترة قريبة جدًا، كان يدور في فلك مرض الاكتئاب فقط لا غير، حتى كان يوم قالت لي صديقة إنها شفيت من الفوبيا عندما ذهبت للطبيب النفسي، تعجبت داخليًا للحظات “يا سلام، ده طلع فيه أمراض تانية بيتراحلها للدكتور النفسي”.
الموقف الثاني كان أقوى أثرًا، عندما روت صديقة عن مرضها النفسي وعن اسم مرضها، وجدت نفسي لا إراديًا أردد عليها عبارات اللوم والحماسة الجوفاء، وبدأت أمشي معها في طريق الاتهامات وأنها “بتدلع” وليس أكثر، والحمد لله أنني انتبهت لأنني أفعل ذلك، وتوقفت في اللحظة عن فعله ذاهلة بشدة من نفسي، لا أعلم بالضبط ماذا حدث لي، وكيف أتحول بهذه السرعة والبساطة إلى شخص “كليشيهي” آخر يرمي المريض النفسي باتهامات مثل الدلع والكسل.
بمراجعة سريعة مع النفس، اكتشفت أن حالي مثل حال أغلب المصريين حاليًا، نتعامل مع الاكتئاب وكأنه المرض النفسي الوحيد، ربما يكون هو المرض الأكثر انتشارًا الآن، وكما يطلقون عليه فهو “مرض العصر”، ولكنه بالتأكيد وقطعًا ليس المرض النفسي الوحيد، فالأمراض النفسية مختلفة ومتعددة مثلها مثل الأمراض الجسدية، كما أن حدتها وخطورتها تختلف من كل شخص لآخر، تمامًا مثل الأمراض الجسدية أيضًا.
الأمراض النفسية لا يمكن اختزالها في بعض تعريفات أو قلة من السطور، فبالرغم من أنني قد شبهتها بالأمراض الجسدية، إلا أنها أكثر تشعبًا وأكثر صعوبًة في التشخيص.
أولًا بسبب عدم اقتناع الكثيرين بالأمراض النفسية أصلًا، وقد ينسبونها إلى الدلع أو الجن والعفاريت، وثانيًا بسبب أنها تكون غير مرئية، وثالثًا لأن بعض الأمراض ترتبط بوجود أمراض نفسية أخرى، هذا غير أن بعض الأمراض النفسية تؤثر على الجسد والعكس صحيح، كما أن الأمراض النفسية مثلها مثل أي شيء حولنا، تتطور وتختلف مع تغير الزمن.
تبدو هذه الحقائق بديهية لبعض الأشخاص، ولكن أعتقد أننا بحاجة إلى تذكير أنفسنا بها من وقتٍ إلى آخر، المرض النفسي لا يجب بأي حال اختزاله في الاكتئاب فقط، ويجب على مرضى الاكتئاب تحديدًا معرفة ذلك جيدًا حتى لا يتسببوا دون قصد في إحراج أو جرح شخص ما قريب منهم يعاني من مرض نفسي آخر لا يبوح به.
ويجب عليهم معرفة أن رغم الكلام الكثير للغاية عن المرض وفرد صفحات وبرامج للتحدث عنه، لم يجعل الكثيرين يهتمون به حقًا ولا حتى الأطباء، فقد اعتبره الكثير من الأطباء مجرد “سبوبة حلوة”، فما بالكم بالأمراض التي نادرًا ما يتحدث عنها أحد ولا يعلم عن الناس شيء، سوى بعض المشاهد الفكاهية من أفلام الأبيض والأسود.
حاولوا ألا تستهينوا بالأمراض النفسية، ولا تستسهلوا إطلاق تهمة الدلع على كل من يعاني من أمرِ ما تجدون له حلًا سهلًا، لا يقوم به صاحب المشكلة، هو بالتأكيد لا يستمتع بكونه معذبًا، هو مريض ولا يستطيع الخلاص، ادعموهم.